«أوكامبو».. آخر صرعات الثياب السودانية

تستوحي أسماءها من واقع الحياة

أسماء التوب السوداني تواكب الأحداث السياسية والاقتصادية («الشرق الاوسط»)
TT

بصوت رخيم سألت السيدة البائع «ألقى عندكم أوكامبو؟» فرد عليها البائع معتذرا بأنه غير موجود... فواصلت مسيرتها تبحث عن أوكامبو لدى دكان آخر..

الـ«أوكامبو» الذي تطلبه السيدة ليس إلا آخر صيحة من «التياب»، أو الثياب السودانية التي نزلت إلى متاجر بعض أشهر الأسواق الشعبية بالعاصمة المثلثة الخرطوم وأطرافها. وهي اسواق بسيطة لكنها غنية بأحدث صيحات الموضة النسائية، بل قل عامرة، يتوفر في بعضها حتى الممنوع من البضائع، بما في ذلك أنواع من الاسلحة المختلفة. وكل شيء بثمنه، إذ لا تسعيرة محددة، بل مفاصلة ومجادلة ومجاملة.

أما الـ«أوكامبو» الذي أطلق اسمه على «التوب»، فهو بالطبع لويس مورينو أوكامبو، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، الذي اصدر يوم 14 يوليو (تموز) الفائت مذكرة توقيف دولية بحق الرئيس السوداني عمر البشير، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة ضد الإنسانية في إقليم دارفور، الذي يشهد حرباً اهلية منذ عام 2003 .

إطلاق اسم أوكامبو على «توب» ما هو إلا دليل من الأدلة الواضحة على سرعة بديهة الشارع السوداني، الذي يمتاز بدرجة عالية من التسييس والاهتمام والمواكبة للاحداث العامة محلياً ودولياً. والمواطن السوداني معروف بأنه مهما كانت درجة ثقافته ومهما كثرت مشاغله لصعوبة توفير قوت يومه، متابع شديد الاهتمام بالقضايا السياسية والأحداث العامة. وهو مثقّف يدلي برأيه بصراحة شديدة، بلا خوف أو رهبة من أحد، وأحياناً إلى حد التهوّر. أما حرص بعض السيدات على شراء «التوب» المسمّى «أوكامبو» فأمر في نظر البعض «حمّال أوجه»، لأن بعضهن قد يكن من المؤيدات لدعوى المدعي العام لاقتناعهن بأن النظام أجرم في دارفور، ولا بد من محاكمة الرئيس خارج السودان، لاسيما أن القضاء السوداني لن يجرؤ على عقابه. في حين ترى سيدات أخريات أن التسمية تعكس استخفافاَ بأوكامبو وادعائه، لأيمانهن بأنه لن يطال الرئيس السوداني مهما ادعى، وأن دارفور قضية سودانية مائة بالمائة، وبالتالي فحلها في أيدي السودانيين. أما الفئة الثالثة فلن ترى في «التوب» أكثر من أنه موضة يجب اللحاق بها، خاصة انه غالي الثمن، إذ يباع بحوالي 500 جنيه (حوالي 250 دولارا أميركيا)، ويشاع ان ثمنه تضاعف بعد محاولات قام بها بعض رجال الأمن بمصادرته لمنع بيعه، وهكذا أصبح «التوب» حكاية تتبادلها المجالس السودانية وتتندر بها.

متتبع تاريخ «التوب» السوداني يجد أنه أكثر من مجرد هندام تتدثر به السيدة السودانية، فيكسبها مظهرها المميز حيثما كانت، حتى ان كان انتشر أخيراً بين جنسيات اخرى، كحال تشاد وموريتانيا. وهؤلاء يشددون على ان طريقة لبس المرأة السودانية «التوب» مختلفة جداً، وبالأخص لأنه عند السودانية هوية تعكس ذاتيتها، او كما قال الشاعر الدبلوماسي سيد أحمد الحردلو «سحنتها النوبية، وكلمتها العربية، ووشمتها الزنجية». ونضيف إلى ما سبق ولعها بالأناقة ووجاهتها الاجتماعية. بل يتعدى «التوب» كل ذلك عندما ننظر له كمقياس أو «ترمومتر» يمكن ان يقيس ما يدور في الشارع العام ويدرسه. وخير ما يثبت صحة هذا القول أسعار «التياب»، التي يمكن ان ترتفع في المواسم، ويمكن ان ترخص عند الكساد العام، وكذلك اسماء «التياب»، التي لا تجتمع هيئات لتتدارس في أمرها، بل تظهر هكذا مواكبة للاحداث في عفوية شديدة .

ومواكبة التسميات للاحداث ليس واقعاً جديداً، بــل عرفه السودانيـــون والسودانيات منذ سنوات بعيدة. فهناك مثلاً «التوب» الذي سمي بـ«لقاء السيّدين» لتعكس تسميته اهتمام المواطن السوداني بلقاء نادر جمع بين إمام طائفة الأنصار السيد عبد الرحمن المهدي وزعيم طائفة الختمية السيد علي الميرغني، وكانت الخصومة السياسية واختلاف الرؤى حول نوعية استقلال السودان من الانجليز او الاتحاد مع مصر في الخمسينات من القرن الماضي قد فرّقت بين الزعيمين وطائفتيهما. وتقول السودانية «توب» بالتاء وليس «ثوب» بالثاء، وتصحّح من يقول عليه «ساري»8 فالساري هو لباس المرأة الهندية، ويختلف شكلاً وقماشاً وطولاً عن الثوب السوداني، الذي يبلغ طوله 4 امتار ونصف المتر بالتمام. ولا يمكن ان تزيد او تنقص لاختلاف الاحجام والأطوال. وتتعلم الصغيرات طريقة لبسه عفوياً حتى يتقنها سنة بعد أخرى. ومن ثم يصبح لبس «التوب» شبه فريضة اجتماعية في مجتمع اسلامي محافظ تقليدي، يمثل إطاراً متناسقا لمكملات الاناقة بعد الزواج كنقش الحناء والدخان والاكسسوارات الذهبية. لكل مناسبة «توبها»، الذي يختلف لونه وشكله وخامته، فهناك ما هو للعمل وهناك الرسمي، وهو عادة قطني ابيض اللون، ولتقديم العزاء هناك «التوب» الهادئ البسيط الذي يتماشى وحالة الحزن. وان استحدثت بعض الســـيدات ضـــرورة الالتزام عند تقديم العزاء بارتـــداء «تياب» بيضاء عليها رســـوم سوداء. والسودانية عموما تتجنب اللون الأسود وتحزن باللون الابيض خاصة الأرامل. ثم ان للزيارات المتعددة بين الجارات «تيابها» الخفيفة الرخيصة، وبينما للمناسبات والأفراح آخر الموضات من الشيفونات والحرائر للشابات، تحرص المتقدمات في العمر على الاكتفاء بـ«تياب» قطنية سادة او مرسومة، أجودها السويسري ثم الايطالي وأسوأها البولييستر. وفي الفترة الأخيرة دأبت بعض الموهوبات من السودانيات على دراسة فنون التصميم واصبحن يبدعن في تصميم ورسم «تياب» من منازلهن. وفي زيارة لمصانع الأقمشة بمنطقة كليستناو، بإقليم فورارلبرغ، بأقصى غرب النمسا على الحدود السويسرية، وجدنا اصحاب المصانع يعرفون «التوب» السوداني وآخر موضاته معرفة جيدة، بل يبيعونه كثوب وليس كأقمشة بالمتر. كذلك يعرفه أشهر اصحاب محال القماش بالعاصمة الفرنسية باريس حتى في اغلى المحال وأفخمها بساحة الفاندوم. أما في لندن والرياض وجدة ودبي فلـ«التوب» السوداني متاجر خاصة. ولم يفت الصين ان تشمله ضمن بضائعها فأصبحت في مقدمة مورّديه، مما أدى إلى إغراق الأسواق بـ«تياب» معقولة الأثمان.

هذا وتطول قائمة أسماء «التياب»، التي تواكب الاحداث السياسية والفنية والاقتصادية والاجتماعية. ومن ذلك تسمية «توب» بـ«ضربة كندا» في إشارة لاعتداء مفاجئ اقدم عليه لاجئ سوداني بكندا ضد الدكتور حسن الترابي اثناء زيارة قام بها كان جزءاً من نظام «الإنقاذ». وهناك آخر اسمه «دموع غبوش»، وغبوش هو الأب فيليب عباس غبوش السياسي والزعيم المسيحي المعروف من اقليم جبال النوبة بغرب السودان، الذي سبق له أن بكى مرة في جلسة متلفزة من داخل البرلمان اثناء حقبة «الديمقراطية الثانية» وهو يخطب شاكياً من الظلم وقلة المساواة والتهميش واحتكار المركز للفرص. وهناك ثالث اطلق عليه «حداد جمال» ظهر بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي حزنت عليه الخرطوم حزناً شديداً. ثم هناك «توب اوبرا» والمقصودة طبعاً الإعلامية الاميركية الشهيرة أوبرا وينفري التي يتابع الجمهور السوداني برنامجها باعجاب شديد. ثم هناك «تياب» باسماء قندهار وغزة. كما سمّي «توب» بـ«المغترب» يوم كان الاغتراب لدول الخليج الأمنية الاولى للشاب السوداني. ولن يفوتنا الوقوف عند الـ«توب» المسمى «قرش الكرامة»، الذي ظهر في التسعينات نتيجة نزاع ســـياسي وخصام نشب بين القائد الليبي معمر القذافي والرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري. وكان القذافي قد طالب النميري في خطاب علني برد أموال اعانات قدمتها ليبيا للسودان، وهو ما أغضب السودانيين فانبروا في حالات هياج لرد الأموال تبرعاً ولو بقرش!