مباهج بصرية تحفز النفس للتطلع إلى آفاق أرحب

متحف لويزيانا في كوبنهاغن

TT

لم يتطلب الوصول إلى متحف لويزيانا للفن الحديث سوى رحلة نصف ساعة بالسيارة. لكن الانتقال إلى ذلك الموقع الذي يبعد حوالي 35 كيلومترا عن مركز العاصمة الدنماركية، لم يأت مفاجئا، فالخضرة التي تتداخل مع لون البحر الأزرق (في حالة أن تكون السماء صافية) تظل حاضرة في معظم أجزاء المدينة، التي تمتد على ظهر عدة جزر متقاربة، تربطها شبكة جسور.

ما يميز موقع هذا المتحف هو أنه يطل على البحر، فبين حافة الهضبة التي تهبط درجا صوب البحر والمتحف أقيمت حديقة صغيرة، لكنها تحتوي على ثروة لم يكن ممكنا تصور وجودها في هذه الزاوية المنسية من شمال أوروبا النائي. هنا تطل أمامك عدة أعمال للنحات البريطاني الراحل هنري مور، تعود إلى فترات مختلفة من إبداعه الواسع، لأجسام منحنية، أصبحت سمة مميزة له. هنا بين الرخام الأسود الذي يشكل مادة منحوتاته والخضرة المتدرجة الطبقات، يمتزج اللون الأزرق في حالات الصحو للبحر والسماء، راسما مع أشجار السرو العملاقة فراغات هندسية منفتحة على الأفق النائي. لكن لهذه المنحوتات الساحرة رفقة تحققت من خلال بعض منحوتات الفنان الأميركي الكسندر كالدر (1898 ـ 1976) التي جاء بعضها تقليدا لرسوم الفنان الإسباني خوان ميرو، هنا تمتزج أحلام الأطفال والألوان الصاخبة بالأشكال المنحنية لمور، كأن الفنانين يتحاوران عبر منحوتاتهما في هذه الحديقة السحرية.

الدخول إلى المتحف نفسه، تجربة أخرى، فأنت لا تشعر بقيود تلك المباني التي تسعى إلى إشعارك بأنك تدخل مكانا لأعمال فنية، حيث تحشر اللوحات والتماثيل والناس في أماكن ضيقة.

هنا على العكس، تتميز قاعات هذا المتحف بسهولة التنقل بينها، كأنك تتنقل في بيت خاص بك تعرف تفاصيله، وليس هناك مجال كي تشعر أنك داخل وسط متاهة. لذلك ليست هناك حاجة لخرائط تخص قاعاته وطوابقه. والمبدأ الثاني هو تحكم ضوء النهار في حجراته، فاتساعها واتساع النوافذ المنصوبة بشكل عمودي على امتداد الجدار المجاور للفضاء يجعل كل شيء فيها خفيفا ومشرقا. هل هي وسيلة لمحاربة عمق العتمة التي تتحكم بالبلدان الاسكندنافية خلال الشتاء؟ أم هو احتفال بالضوء وبطول ساعات النهار في الصيف؟ قادتني قدماي أولا إلى ذلك المعرض الخاص بالمعمار في القبو، هنا تجد صور معالم بارزة تمتد من نيويورك وحتى طوكيو. أكثر من معرض يهم المتخصصين قبل غيرهم. لكن الطابق الأرضي انفتح أمامي على معرض جديد، يضم أعمالا لفنانين ما زال أغلبهم على قيد الحياة، لكنهم ما زالوا فعالين على مستوى التجديد الفني.

لم تكن هناك لوحات كثيرة. بل لوحة أو اثنتان تحتلان قاعة بأكملها. والقاعة تبدو عارية من النقوش والديكور. من يصدق أن هذا المتحف بني قبل 50 عاما؟ فهو قد أصبح نموذجا للكثير من المتاحف الغربية التي راحت تبنى في القرن الواحد والعشرين.

جذبتني لوحة الرسام السويسري هلموت فدرل، 64 سنة، الذي خصص للوحته الكبيرة «القيامة» جدار بأكمله. ولم يكن هناك أي عمل آخر له. في تطلعي للعمل المرسوم بالألوان البنفسجي والأخضر والأسود انجذبت تدريجيا إلى وجود حركة في أجزائها بفعل الخداع البصري لألوانها وأشكالها وطريقة ترتيبها. بدت اللوحة كأنها امتصت الألوان تماما لتحقق جميعها وحدة كاملة. ومع العوارض العمودية والأفقية المتداخلة فيما بينها والتي تأخذ أشكال حروف وصلبان، تطفو فوق سطح اللوحة كأنها تتحرك أمامك. هل أنا أتابع مشهد مقبرة؟ هارمونيا وتوازن يتحققان في التشكيل الفني بشكل مثير للدهشة. كذلك مع غياب إطار للوحة منحت الأشكال والألوان شعورا بالامتداد للمشهد خارج حدودها. هنا يتواجه المشاهد مع حالتين متعارضتين لا تكف اللوحة عن إثارتهما في كل لحظة: حالة سكونية عارمة تعارضها حركة خفية ناجمة عن ترتيب الخطوط وتفاعل الألوان القليلة بشكل رائق وحيوي.

الفنانون الذين جمعت أعمالهم في هذا المعرض منتمون إلى أجيال وبلدان مختلفة، لكن ما يوحدهم هو سعيهم لخلق تأثيرات بصرية في المتلقي تتلازم مع فكرة ما، أو مع رؤية فلسفية ما. هل هو ازدهار لأسلوب تعبيري جديد؟ ربما. يستخدم الرسام الأميركي، فرانك ستيلا المولود عام 1936، في لوحة «ستسيفون» (طاق كسرى)، مادة البوليمر والبوليمر الفلوري المشع على قماش القنب. اسم اللوحة مأخوذ من عاصمة الساسانيين التي سقطت بيد القائد الإسلامي سعد بن أبي وقاص في عام 763 ميلادية، والتي تقع في أطراف بغداد اليوم وتعرف باسم سلمان باك. وكانت هذه المدينة موضع احتلال وتدمير على يد الرومان والإغريق قبل ذلك ولعدة مرات.

في هذه اللوحة يستخدم الفنان ستيلا الدوائر والمربعات والمثلثات. وعلى الرغم من أنها مستوية (ذات بعدين فقط) فإنها مملوءة بالحياة. فالأشكال جُمع بعضها مع بعض بطريقة تخلق شدا فيما بينها، بل حتى تبدو متفاعلة، بشكل يمنح اللوحة إيقاعا وحركة. وهذا نفسه ينطبق على الألوان. والتأثير الذي تتركه على المتلقي هو أنه بدلا من مشاهدة لوحة ساكنة، تقابله حركة وطاقة تدفع عينيه للقفز من نقطة إلى أخرى، إلى الأمام. إنه فيض من الحيوية يظل يمسكك وأنت تتابع ألوانها وخطوطها الهندسية.

لكن العمل الأكثر إثارة يعود للفنانة الفرنسية المقيمة في الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، لويز بورجوا المولودة في عام 1911، لكنها ما زالت تتمتع بروح الإبداع، وما زالت أعمالها الجديدة تخرج من بين أصابعها حتى مع اقترابها من سن المائة.

تعتبر بورجوا من الفنانين الذين مهدوا للكثير من الأساليب الجديدة في الفن التشكيلي، حيث أصبح العمل الفني يتضمن حرفا ومواد مختلفة تتجاوز دوائر النحت أو الرسم. ففي أعمالها السابقة استخدمت الحياكة والنحت والمواد البيتية الأولى لخلق ما عرف لاحقا بفن «الإنشاء».

هنا خصص لها في قاعة كبيرة منحوتة برونزية عملاقة: «ثنائي العناكب» الذي أبدعته في عام 2003 فقط.

طوال حياة لويز بورجوا كفنانة، ظلت طفولتها مع ما رافقها من صدمات ـ حبها لأمها وغضبها على أبيها ـ قوة أساسية محركة في مسار حياتها. فلأكثر من 50 عاما ظل العنكبوت إحدى الأفكار المهمة في عملها، ففي البداية رسمته في تخطيطات ونقوش صغيرة، ثم حولته إلى المنحوتات، وخلال السنوات الأخيرة وصل ارتفاع إحدى منحوتات العناكب إلى 11 مترا، وأطلقت عليها «ماما». كان عمل أمها إصلاح وصيانة الأعمال الفنية المعمولة فوق الأقمشة. وكان عملها مع الخيط والمغزل مصدر عيش أسرتها الكبيرة وأسر عمالها. تقول بورجوا عن أمها: «كانت نظامية وماهرة وصبورة وتقدم دائما العزاء للآخرين، وعقلانية، ورقيقة، ولا يمكن الاستغناء عنها، ومرتبة، ومشغولة دائما مثل عنكبوت». وفي مناسبة أخرى، قالت بورجوا: «أنا لن أكف عن تصويرها». لكن في هذا العمل يقدم العنكبوت أيضا مكانا لاختفاء صغاره. فالجسم والأطراف تعرض فراغا يتشكل في منتصف التمثال، لذلك يمكن رؤيته كملاذ، وهي فكرة أخرى ضمن الأفكار التي اشتغلت بورجوا كثيرا عليها. في لوحة «ثنائي العناكب» هذه يسعى العنكبوت الصغير إلى الحصول على ملاذ له مع العنكبوت الأكبر. وهي صورة قابلة لأن تمثل ثنائيا لأم وابنتها: لويز بورجوا وأمها، حتى بعد انقضاء وقت طويل على وفاة الأم واقتراب البنت من سن المائة.