لبنان يحترق في مسرحية «عودة الفينيق»

خلال اختتام مهرجان جبيل لصيف 2008 وبحضور فؤاد السنيورة

أنطوان كرباج في فقرة استعراضية من «عودة الفينيق» التي أشعلت الجمهور في ختام مهرجان جبيل. (رويترز)
TT

لمرة جديدة يعود الرحابنة إلى جبيل وإلى جمهورهم اللبناني الذي أدمنهم. وليس مهماً حين تحجز لمسرحية رحبانية أن تسأل إن كانت موفقة أو بالمستوى الذي تتمناه، فهناك ما يشبه العشق غير الواعي لكل ما تنتجه هذه المؤسسة بمختلف فروعها، وبالأخص الفيروزي منه والمنصوري. وقد أطل منصور الرحباني بالأمس من خلال مسرحيته الجديدة «عودة الفينيق» ليختتم بها مهرجان جبيل لصيف 2008، في عمل ثلاثي جمعه مع ابنيه أسامة إنتاجاً وموسيقى، ومروان إخراجاً لهذه المسرحية الغنائية. وزحف الجمهور كما يفعل في العادة، وربما انه كان أكثر حماسة بالأمس، مما أربك المنظمين الذين فوجئوا بأعداد لم ينتظروها ورسميين بالجملة، كان في مقدمتهم رئيس الوزراء فؤاد السنيورة وإلى جانبه وزراء عدة.

وبدأ العرض وكان بعض الصحافيين مايزالون ينتظرون إمكانية الدخول وأخذ أماكنهم، ثم سرعان ما تدبر المنظمون الأمر وطبعوا بطاقات إضافية لاستدراك الموقف.

والمسرحية لا تختلف في رؤيتها العمومية عن سابقات لها كتبها منصور الرحباني، فهو مولع بإيجاد اسقاطات تاريخية، لينتقد الواقع اللبناني الراهن ويحذر من مخاطر ومنزلقات حارقة. وهذه المرة اختار قصة مدينة جبيل تحديداً، التي كانت مطمعاً يتنازعه المصريون والحثيون.

ولما كان العرض في مدينة جبيل ايضاً وعلى مرفئها القديم، فقد كانت الديكورات اشبه بمرآة تريد ان تعكس صورة المدينة نفسها على المسرح المفتوح. وشكّل الجبل الممتد والمضاء خلف المسرح، كما الميناء الذي يطل عليه، جزءاً من المشهد. فأن تحكي قصة جبيل في جبيل نفسها لهو أمر جميل لكنه تحدٍ كبير ايضاً. وجاء القصر الذي احتل خلفية الخشبة بأدراجه ونوافذه وشرفاته المرتكز الأساسي فيما استعين بزوايا واعمدة وجدران متحركة لإكمال المشهد عندما يستدعي الأمر ذلك.

وشاهدنا ملك جبيل الطالع من العام 1370 ق.م. والذي يحمل اسم «رب عدي» (أدى الدور أنطوان كرباج) يتحرك على المسرح، ويستعين بأخناتون في مصر ليستقوي به على أعدائه الذي تنوعوا وتعددوا، فمنهم شقيقه أبيشيمو وكذلك الحثيين ومجدو قائد ثوار جبيل. لكننا سرعان ما نفهم ان شقيق الملك أبيشيمو هو أيضاً حليف من جهته للحثيين.

قصة من قبل الميلاد تكاد تكون مرآة للواقع. وكي تصبح المرآة أكثر صدقاً فإن المسرحية بأسرها رغم غنائيتها والرقص والأزياء التي أريد لها ان تكون مشعة وفرحة بلون طيف قوس قزح، لم تمنع دراميتها. لكن منصور الرحباني الذي بات محنكاً بأدوات الكتابة المسرحية الناجحة ويعرف ملحها وبهاراتها، أدرك كيف يضيف إلى الحوارات لمسات الطرافة اللاذعة، والتعليقات المرحة. وكالعادة فإن قصة الحب التي لا بد منها في مسرحيات منصور كانت هذه المرة بين مجدو (غسان صليبا) قائد الثوار الذي يريد ان يعيد الحكم للشعب وينتزعه من الآلهة وروكسانا (هبة طوجي) ابنة الملك التي تقتنع في النهاية بأن تلتحق بالثوار دون ان تتخلى عن والدها. وصوتا غسان صليبا وهبة طوجي، تقوم عليهما المسرحية، لاسيما المفاجأة التي تمثلت بصوت الصبية الصاعدة هبة، التي أدت اغنياتها الرومانسية بكثير من الموهبة، وبدا حضورها على المسرح أخاذاً. وفي الفصل الثاني وبعد أن ينقلب أبيشيمو على أخيه الملك بمعونة الحثيين نرى روكساناً باحثة في البراري عن حبيبها مجدو، وهنا، وحين يشعر الجميع ان جبيل في خطر وان الحثيين سيطروا على المملكة يتعاون الثوار مع الملك ويعيدونه إلى القصر. لكن المصريين، الذين سيطروا على المملكة يخطفون روكسانا وحبيبها قائد الثوار (الذين من المفترض انهم حلفاؤهم)، لتغني معه الحرية في سجنهما المشترك. وفي النهاية حين يعرف أهل جبيل انهم لا بد هالكون وان القوتين اللتين استنجدا بهما لن ترحما الأهالي، يفضلون أن يحرقوا انفسهم ومدينتهم على ان يستسلموا للذل والهوان. وبمقدور المتفرجين أن يشاهدوا أحد المراكب يحترق على مرفأ جبيل والنار والدخان يتصاعد منه بعد ان قرر أهل المدينة الصمود والموت على الهرب.

لبنان مصغراً في مسرحية، لم تخرج عن النهج الرحباني المعتاد. لا مفاجآت خاصة، الملابس أقل بذخاً من المعتاد وكذلك الديكورات، أما الرقص الذي حاول ان يكون لبنانياً دون أن يهمل الفترة التاريخية التي يمثلها لم يحمل تنويعات كبيرة بدوره، وحتى مشهد رقص الفراشات وطيور الفينيق التي كان يفترض ان تدهش، جاءت متشابهة من حيث الملابس على الأقل لولا تنويعات على الألوان. ولكن هذه الملاحظات لا تثني اللبنانيين والعرب عموماً عن الهرولة والزحف الجماعي لحضور مسرحية منصور الجديدة طوال الأيام المقبلة. فللرحابنة سحر وهو يكمن في أنهم يعرفون سر ان تصنع مسرحاً غنائياً شعبياً، وهذا بحد ذاته نجاح غير قليل في منطقة عربية المسرح الغنائي فيها يكاد يكون غائباً إلا في لبنان.