«العرضحالجي».. دليل المصريين في دهاليز الروتين

قابع تحت مظلته منذ عشرات السنين

الأمية الإدارية لها دور في رواج عمل «العرضحالجي» («الشرق الاوسط»)
TT

قبع عليّ «العرضحالجي» تحت مظلته، وجلبابه منغرسا في كومة من الأوراق والبشر والجنيهات التي تلين الحديد، غير عابئ بمناقشات مجموعة من المحامين الشبان حول حرمان أقرانهم من الدخول إلى النقابة إلا بعد الكشف الطبي.

نموذج توكيل فارغ ملأه بنفسه مع «خريطة طريق» لكل الخطوات الروتينية داخل المصلحة. كل ذلك نظير 5 جنيهات فقط وفّرت الوقت والجهد على حسين الذي دخل إلى الشهر العقاري مرة ثانية ورجع بعد 20 دقيقة، فرحاً بإنجاز عمله، رافعاً يده محيياً عليّ الذي انهمك مع «زبون» آخر، فلم يرد التحية.

واصل عليّ عمله متحدياً اللافتة التي علقها مسؤولو الشهر العقاري بجانب باب الدخول، محذّرة من التعامل مع الكتبة العموميين ـ أو «العرضحالجية» ـ لأن ذلك يعرض الجمهور للوقوع في تجاوزات قانونية، وبدا واثقاً بنفسه رغم تنافس أربعة من زملائه على الزبائن الجدد، بالإضافة إلى مجموعة من المحامين الشبان توزّعوا على مدخل المصلحة وباب محكمة الأحوال الشخصية الشهيرة، وحوّلوا أعينهم إلى «قرون استشعار» تصطاد الحائرين في أروقة الروتين الشائك.

ورث عليّ «المهنة» عن والده، كما نال بعض زبائنه جزءاً لا بأس به من خبرته. والاقتراب من طبيعة عمل «العرضحالجي» يكشف أنه حقاً جزء من منظومة متكاملة لا تعتمد على جهل الناس بقواعد الروتين والرغبة في اختصار الوقت فحسب، بل هناك عوامل وعلاقات متشعبة تتفاعل معاً لتكسبه سباق المنافسة والبقاء. فبين الرجل وكبار المحامين بوسط القاهرة علاقة تبادلية تقترب من الندية، ذلك أنه بحكم احتكاكه المباشر بالناس يستطيع بسهولة أن يلعب دور«العرّاب» ومندوب الدعاية لمكاتبهم مقابل أن يوجّهوا موكليهم إليه لشراء المستندات والأوراق الرّسمية، التي حفظها عن ظهر قلب، سواء تلك الخاصة بالمحاكم أو الشهر العقاري أو حتى أوراق مصلحة الضرائب القريبة.

لم يسلم مجموعة من المحامين الشبان على مدخل المحكمة من سخريته لمحاولاتهم خطف زبائنه: «دول محامين سلّم يا بيه، الواحد ممكن يعمل دعوى صحة توقيع بسيجارتين و20 جنيهاً، تصدّق إن واحد فيهم حاطط بادج المحاماة على شنطته بدل العربية.. الله يرحم بهوات زمان!».

لكن ما لبث أن تراجع قائلاً: «مساكين، الواحد فيهم محتاج مصاريف وهمّا لسّه متدربين يعملون بلا راتب».

مهنة لها أصول وتقاليد: عليّ يكسب 100 جنيه على الأقل يومياً، ويستطيع أن يزيدها إلى أضعافها بعد طرق أبرزها استعانته بماكينة تصوير مستندات، لكنه يرفض ذلك بإباء مبرّراً رفضه بقوله: «الحياة مش كلها فلوس، وأنا راجل رأس مالي قلمي وخبرتي ومش ناقص البلدية والضرائب يوجّعوا قلبي».

لكن وجع القلب والمال ليس السبب الوحيد لقراره الصارم بل «غيرته على المهنة». إذ يضيف «الراجل ده الواقف على بعد أمتار مني كان بيّاع حرنكش (نوع من الفاكهة الرخيصة) يدور على مكاتب المحامين وكانوا أحياناً يرسلونه لتخليص بعض الأوراق من الشهر العقاري، وبمرور الوقت حفظ الخطوات وربّى زبائن مع أنه جاهل».

هكذا لم يسلم منافسه من لسانه، لأنه يعتبره اعتدى على مهنته التي ورثها عن أبيه مضيفاً «مش كفاية الحكومة بطّلت تدّي ترخيصات.. وبتحاربنا في أكل عيشنا!».

باستثناء عليّ الذي ورث مهنته عن أبيه، وبائع الحرنكش الذي تحوّل بحكم اللف على المكاتب إلى «عرضحالجي»، فإن الطريق إلى مهنة الكاتب العمومي لها طرقها المنطقية.في الغالب من يعمل فيها يكون موظفاً سابقاً في نفس المصلحة التي يقف أمامها بعدما اكتسب الخبرة من سنوات عمله واحتكاكه باللوائح. فـ«العرضحالجي» الواقف أمام قسم الشرطة في الأغلب كان شرطياً وخرج للمعاش يبيع وثائق السجل المدني، ويدلّ الجمهور على الخطوات السليمة أو يؤدي طلباتهم بالنيابة عنهم مستفيداً من شبكة علاقات كوّنها في سنوات خدمته الطويلة مقابل جنيهات معدودة، وقد يعطف عليه زملاؤه القدامى فيحفظون له منضدته وأدواته داخل مكاتبهم لصباح اليوم التالي. يؤمن مجتمع الكتاب العموميين كذلك بالتخصص الدقيق، وهو أمر مفروض بحكم الخبرة. فـ«العرضحالجي» الذي يمارس عمله أمام «إدارات المرور» يختلف في الهيئة والتكوين والعلاقات والمهارات عن «عرضحالجي» المحاكم، والاثنان يختلفان جذرياً عن ذلك الذي يمارس عمله أمام قسم الشرطة. وإذا كان الروتين هو دافع الناس للجوء إليهم أمام السجل المدني وإدارات مرور السيارات فإن الاستفادة من علاقاتهم وقدرتهم على نقل أخبار المحبوسين داخل الأقسام وإيصال الأكل والسجائر لهم هي الدافع الرئيس للتعامل معهم، كما أن الاستفادة من خبراتهم في دهاليز المحاكم وثغرات القانون لها دورها أيضا مثلما رأينا أحدهم (رفض الكشف عن اسمه) يبيع مسنداً جاهزاً اسمه «تقرير عذر» وهو عبارة عن تقرير طبي جاهز يستعين به من سقط حقهم في استئناف الأحكام القضائية ليسمح لهم بذلك. هل هي ظاهرة محض مصرية؟: يقول أحمد عبد الرحمن وهو محام سابق لم يحتمل طول فترة التدريب الخالية من الأموال وهجر المهنة للعمل في البورصة: «الأمية الإدارية لها دور في رواج عمل «العرضحالجي»، ويكفي أن تعلم أن بعض المصالح الحكومية في مصر تسلم المواطنين أوراقاً فارغة لا يعرف البعض ماذا يكتبون فيها لتسيير مصالحهم، كما أن وجود لوحات إرشادية لبيان الأوراق المطلوبة بمثابة ضرب من الخيال، بالإضافة للظروف السيئة التي تحاصر الموظف المصري.. بعضها تخص تكوينه العلمي والثقافي، والأخرى تخص اللوائح والرواتب وتجعله في النهاية واحداً من أقل الموظفين عملا في العالم».

في المقابل يقول البعض الآخر إن ظاهرة الكاتب العمومي موجودة في أماكن عديدة من العالم العربي. فالروائي المغربي الكبير الطاهر بن جلون كتب قبل ذلك رائعته الشهيرة «الكاتب العمومي»، كما أن اسم المهنة نابع من كلمتي «عرض الحال» وهذه مهمة وسيطة يمكن أن توجد في كل المجتمعات.

في ستينات القرن الماضي كتب شاعر العامية المصري فؤاد حدّاد قصيدته الشهيرة «الاستمارة» التي غناها بعد ذلك الموسيقار سيد مكاوي، ساخراً من الروتين في مصر، تقول بعض أبياتها:

اسمع حكايتي.. مع استمارة .. راكبة الحمارة راحت لفكري.. قال تيجي باكر..

وتروح لذكري.. قال روح لشاكر...

ولشاعر النيل حافظ إبراهيم بيت شهير يقول:

وألذُّ من نيل الوزارة منصبٌ.. يوريكَ كيف مصارع العظماءِ وهو البيت الذي يقفز إلى ذهن أي متابع لتلك المهنة.

ولكن بين حافظ وحدّاد كتب يحي حقّي رائعته «قنديل أم هاشم» التي سجل كيف يؤمن أهل حي «السيدة زينب» الشعبي بالخرافة، ويلفظون جارهم إسماعيل العائد من لندن حاملاً علوم الطب الحديث.

قفز حقّي بروايته أمام عيني عندما همّ أحد المحامين المنتظرين أمام محكمة الأحوال الشخصية بسؤال عليّ «العرضحالجي» عن كيفية استخراج صورة من توكيل قديم حرّره صاحبه منذ سنوات في الشهر العقاري. فهكذا، تتراكم الأسئلة والطلبات كل يوم أمام «العرضحاجي»، مزاحما بخبرته الشفاهية أعتى نظم التكنولوجيا الحديثة في فني الإدارة العامة وإدارة الأعمال.