قرويّو البلقان يستخدمون الحيوانات لمعرفة أحوال الطقس

نظريات علمية وتجارب تاريخية تؤيد خبرتهم

الخيول لها مقدرة على معرفة تقلبات الطقس («الشرق الاوسط»)
TT

يفتخر كثيرون من سكان الأرياف في منطقة البلقان بأن حميرهم وخيولهم وأبقارهم، بل حتى دجاجهم، أكثر معرفة بأحوال الطقس من وكالات الرصد الجوي. ويعربون عن استعدادهم لتأكيد ذلك بالتجربة العلمية القاطعة.

«الشرق الأوسط» تحولت إلى مناطق في مقدونيا وكرواتيا والبوسنة للوقوف على هذه «الظاهرة» وسط تندر البعض بأن «على العالم في القرن الحادي والعشرين وضع مجموعة من الحيوانات مكان أجهزة الرصد الجوي الضخمة لأنها أكثر دقة في تشخيص أحوال الطقس». وذكرني هذا الأمر بقصة تروى عن أحد الولاة عندما خرج يوما للصيد متنكراً، فلقيه حطاب يسوق حماره قافلاً إلى البيت، وعندما رأى الوالي ـ من دون أن يعرف هويته طبعاً ـ نصحه بالعودة من حيث أتى لأن السماء ستمطر. فاستغرب الوالي المتنكر وأجابه «لا عليك أيها الحطاب، اطمئن، لن تمطر... لقد أخبرني الفلكي بذلك»، وتابع مسيرته. لكن المطر هطل في ذلك اليوم كالقرب. وما كان من الوالي إلا أن عزل الفلكي، ثم تذكر الحطاب، فطلب إحضاره إليه ليحل محله. لكن الحطاب قال له إن الحمار وليس هو من تنبأ بنزول المطر، وعندها اشترى الوالي منه حماره.

خبرة من واقع المعيشة: كانت تلك قصة في تراثنا لم يصدقها البعض واعتبرناها من الخرافات الطريفة للتسلية. لكننا في مستهل الألفية الثالثة نرى أن المسألة أكثر جدية مما كنا تنصور. ففي منطقة دوني فاكوف الشهيرة بزراعة الملفوف (الكرنب)، بشمال غرب البوسنة، يرش المزارعون الأسمدة على منتوجاتهم البعلية (غير السقوية) قبل نزول المطر، وأحيانا يكون الجو صحواً عند مباشرة ذلك العمل، فمن يخبرهم بنزول المطر؟

يقول صباح الدين دجنجوجيتش لـ«الشرق الأوسط» صراحةً «إننا نراقب سلوك الدجاج خارج السياج، فإذا كان متفرقاً في الساحة فإن ذلك إشارة بأن المطر لن ينزل، وإذا رأينا الدجاج مجتمعاً في مساحة صغيرة فمعنى ذلك أن موعد المطر وشيك فنرش الأسمدة أو نمتنع عن بعض الأعمال». كثيرون من سكان الأرياف أكدوا لـ«الشرق الأوسط»، مثل دجنجوجيتش صحة استعانتهم بالحيوانات لمعرفة أحوال الطقس. ففي منطقة زادار الكرواتية يبقي الرعاة قطعان ماشيتهم داخل الحظائر أو ينقلونها إلى المزارع حسب تصرفها الذي ينبئ عن نزول الثلج أو المطر. وهذا ما يشرحه ستيب هورشيتش بقوله إنه «إذا اندفعت الحيوانات عند فتح أبواب الحظيرة فمعنى ذلك أن الجو سيكون على ما يرام، أما إذا خرجت متثاقلة وبطيئة فنستنتج بأن الثلج أو المطر على وشك النزول، وهذه تجربة أكدت صحتها السنون». ليس هذا فحسب، بل إن سائقي العربات (الحناطير) التي تجرها الخيول في الأماكن السياحية في أكثر من نقطة في البلقان يشيرون إلى أنهم يتنبهون إلى احتمالات هطول المطر أو استمرار الصحو من خلال النظر إلى آذان خيولهم. ويشرح شاكر اسماعيلوفيتش هذا الأمر، قائلاً «إذ أسند الحصان أذنيه إلى الخلف كما يفعل الإنسان عندما يرفع كتفيه مع ثنية معطفه، يكون ذلك ايذاناً بقرب نزول المطر... فنعود للبيت، ولم تخيب الأيام هذا الحدس أبداً».

التفسير العلمي: «الشرق الأوسط» نقلت هذه الإفادات إلى خبير التغيّرات المناخية عز الدين ديليتش، الذي قال إن «عدة أبحاث صدرت نتائجها في الآونة الأخيرة سلطت الضوء على ما يعرف بـ«الحاسة السادسة» عند الحيوانات والتي يمكن اعتمادها لرصد الظواهر الطبيعية ومنها الزلازل». وتابع «يأمل العلماء بالاستفادة من الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية في تفسير هذه الظاهرة». كذلك أكد نائب رئيس إدارة مركز حماية البيئة في سري لانكا عقب كارثة «التسونامي» المدمرة التي ضربت جنوب شرق آسيا وحوض المحيط الهندي عام 2004 وفق موقع دوتشيفله على الإنترنت عن اعتقاده «بقدرة الحيوانات على التنبؤ بالكوارث البيئية تساعدها في ذلك ما يعرف بـ«الحاسة السادسة» على حد قوله». وأضاف «عززت هذا الطرح شهادات فرق الإنقاذ في المحمية الوطنية الواقعة في الجنوب الشرقي للبلاد التي لم تسلم هي الأخرى من أمواج التسونامي، وذلك حين لم يُعثر على بقايا جثث الحيوانات التي كانت تعيش في تلك المنطقة، وهذا ما يشير إلى نزوحها من مكان الكارثة قبل وقوعها. وفي السياق ذاته تحدثت شهادات أخرى عن حالات ارتباك لوحظت لدى الحيوانات تلتها عمليات نزوح جماعي باتجاه المناطق الداخلية للبلاد. وحتى الفيلة المروّضة انتابتها موجات من الرعب والهلع ولجأت إلى المناطق المرتفعة... وتتشابه هذه الشهادات في مضمونها مع تقارير وروايات مماثلة عن تحرك يوصف بغير العادي لبعض الحيوانات سبق هزات أرضية أو انفجارات بركانية. وثمة من يتحدث عن مشاهد لنزوح جماعي للأفاعي والطيور سبق وقوع الكوارث الطبيعية. أيضاً يرجح بعض الخبراء ظاهرة الخروج الجماعي لبعض الحيتان، التي عادة ما تعيش في أعماق البحار، إلى السواحل للذعر الناجم عن تنبؤ مسبق بالكوارث الطبيعية، ولكن معرفة أحوال الطقس تحتاج لدراسات مستفيضة ولا يمكن التعميم بدون ذلك». وفي تصريح لـ«الشرق الأوسط» قال الأستاذ في علوم الجيولوجيا سعيد هورتيتش «إن الاعتقاد بوجود وبفاعلية الحاسة السادسة عند الحيوانات يعود إلى قرون مضت. وهذا الاعتقاد أخذ يحتل مكانه في العصر الحالي في بعض الكتب العلمية المختصة.  وهكذا نجد أن عالِم الزلازل تسونيي ريكيتك قد خصّص في كتابه بعنوان «التنبؤ ومؤشرات الهزات الأرضية العنيفة» فصلاً كاملاً تعرض فيه لـ«الحاسة السادسة» عند الحيوانات لدى حديثه عن التنبؤ بالكوارث الطبيعية... كذلك أكد بعض الباحثين في دراسات إحصائية أجريت في كل من اليابان وتركيا بدورهم على وجود صلة بين حالة الهلع المفاجئة التي تنتاب الكثير من الحيوانات والكوارث الطبيعية قبيل حدوثها. ولكن مع هذا لا تزال ثمة شكوك تحيط بجدية وجود ما يسمى «الحاسة السادسة» من المنظور العلمي». وهذا ما أكده أيضاً الباحث في علم الجيولوجيا ورئيس قسم رصد الزلازل في جامعة برلين في ألمانيا، البروفيسور رينر كيند، حينما وصف روايات تنبؤ الحيوانات بالكوارث الطبيعية بـ«الحكايات الأسطورية». وقد أشار كيند في هذا الصدد إلى «استحالة إثبات الفرضيات التي حاولت في ذلك السياق تفسير التغيّر الذي يطرأ على سلوك الحيوانات قبيل وقوع الكوارث الطبيعية». وحقاً، سبق أن حاول الباحثون منذ العقود الثلاثة الماضية إثبات الفرضية القائلة بأن الارتفاع الملحوظ في درجة حرارة الأرض، الذي يسبق حدوث الزلازل، يؤثر في فترات الراحة البيولوجية لبعض الحيوانات التي تعيش تحت سطح الأرض، وبالتالي يؤدي إلى تغير مفاجئ في سلوك هذه الحيوانات. ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل. ومع هذا، ورغم صعوبة التوصل إلى نتائج إيجابية قائمة على حقائق علمية متفق عليها أخذ أحد الباحثين من جامعة برلين، اسمه تريبوتش، على عاتقه مهمة البحث في هذا المجال منذ عام 1976. ففي ذلك العام ضرب زلزال عنيف منطقة فريولي الإيطالية حيث كان يملك منزلا صيفيا. وقد لجأ إليه بعض سكان هذه المنطقة المنكوبة من أجل الاستفسار منه حول التغير المفاجئ الذي طرأ على سلوك الحيوانات الذي لفت انتباه السكان عند حدوث الهزات الأرضية، إلا أنه لم يستطع عندها تقديم أجوبة مقنعة على هذه الاستفسارات. وعلى ضوء تلك التجربة قرّر تكريس جل وقته للأبحاث العلمية في هذا المجال. وقد قاده البحث إلى الصين وبالذات إلى أيام الزعيم الشيوعي الراحل ماو تسي تونغ الذي دعا آنذاك الشعب الصيني إلى مراقبة أي تغير غير عادي قد يطرأ على سلوك الحيوانات للتنبؤ بالزلازل. وبالفعل اعتمدت الحكومة الصينية على هذه التجربة وأجلت على أساسها منطقة هيشنغ سنة 1975 بضعة أيام فقط قبل تعرّض المنطقة لزلزال عنيف كان من شأنه أن يحصد العديد من الضحايا. ورغم هذا الاكتشاف يقرّ تريبوتش بصعوبة التوصل إلى إثبات علمي «لأن هذا يحتاج إلى بحث طويل وغطاء مالي كبير».