منعم «كلاكيت».. ذاكرة أخرى للسينما المصرية

لا يحب مشاهدة الأفلام في دور العرض لأنها تذكره بلحظات عصيبة

منعم يصرخ كلاكيت لبدء مشهد من مشاهد فيلم «علي سبياسي» «الشرق الأوسط»
TT

«كلاكيت 32...3... أول مرة» تلك صرخة «منعم» الأثيرة داخل البلاتوه إيذاناً ببدء مشهد سينمائي جديد في أي فيلم من الأفلام التي يجري تصويرها كل يوم في استوديوهات القاهرة، وبعد هذه الصرخة تبدأ الكاميرا في الدوران، ويباشر الممثلون أداء المشاهد أمام الكاميرا.

«الكلاك» عبد المنعم مصطفى، أو «منعم» كما يطلق عليه الوسط السينمائي، يعشق السينما إلى درجة الجنون، لكنه لا يحب مشاهدة الأفلام داخل دور العرض قائلا «يوجد ارتباط شرطي بيني وبين الفيلم الذي أعمل فيه. فهناك مشاهد تذكرني بلحظات عصيبة عشتها أثناء تصويرها. مشاجرة مع مخرج. إعادة مشهد عشرات المرات ... كل مشهد يذكرني بلحظة «قرف» لا أحب أن تدور برأسي مرة أخرى، كما أنني لا أطيق مشاهدة عيوب الفيلم في الإضاءة أو أداء الممثل، وهي أشياء تمر على المشاهد العادي لكنها لا تمر عليَّ».

في إحدى الليالي الصيفية التقى «منعم» مصادفة بالفنان كمال الشناوي، وطلب منه العمل في السينما، وما كان من الشناوي إلا أن دعاه إلى الأستوديو. وهناك شعر أن السينما هي حاضره ومستقبله، إذ جذبه هذا العالم السحري الذي يشخّص الواقع مضفياً عليه لمسات جذابة، وجميلة وخيالية أحياناً، وأليمة ومحزنة أحياناً أخرى، لكن ـ كما يقول «منعم» ـ «السينما هي فن الرؤية .. هي أن نرى أنفسنا على شاشتها، وأن نرى الآخرين الذين يعيشون حولنا، وفي النهاية الحياة كلها تمثيل في تمثيل».

عن خطواته الأولى في طريقه «السينمائي» يقول «منعم» «نصحني الشناوي بالدراسة في قصر السينما، وهو معهد خاص يعطي دورات تعليمية، وهناك درست مفردات العمل السينمائي واتجهت بعدها للتمثيل».

ومثّل «منعم» مشهده الأول مع الفنان عادل إمام في فيلم «الإرهابي»، لكن صديقه خيري سالم ألحّ عليه في أن يبدأ معه مشوار العمل السينمائي خلف الكاميرا عبر مهنة «الكلاكيت». ووافق «منعم» بعد تردد ليصبح بعدها أحد أشهر «الكلاك» في السينما المصرية المعاصرة.

«كنت أشعر أن الأفلام القديمة تصوّر هذه الوظيفة بشكل ساخر ومثير للضحك، كان الكلاك في هذه الأفلام يصرخ في الأستوديو أمام المخرج فيلم امسك أنفي من فضلك .. أول مرة، هذه المسألة جعلتني أتردد، لكن خيري قال لي من الممكن تطوير المهنة وإعطائها وقارها واحترامها، وقد كان».

في الحقيقة مهنة «الكلاكيت» كانت المهنة الأولى لعدد من المخرجين الكبار الراحلين والحاليين على طريق ولوج عالم السينما السحري. وهزّ «منعم» رأسه موافقاً وهو يطالب النادل بقطعة فحم للنارجيلة، ثم قال «الكلاكيت هي الخطوة الأولى في عالم الإخراج لعدد كبير من المخرجين من بينهم المخرج الكبير حسن الإمام وعاطف سالم من الجيل الذهبي، ومن الجيل الحالي نجد محمد النجار وعلي إدريس وعلي رجب وكلهم يفتخرون بذلك. الكلاكيت يمنحك فرصة لرؤية خفايا التصوير السينمائي وتفاصيله الدقيقة».

واعتدل «منعم» في جلسته وهو يجذب نفَساً عميقاً من النارجيلة شارحاً بلهجة الأستاذ طبيعة وظيفة الكلاكيت في السينما، فقال «الكلاك يا صديقي هو همزة الوصل بين المخرج ومدير التصوير ومهندس الصوت، وصولاً إلى المرحلة النهائية والهامة حيث المونتير والمعمل لطبع الفيلم». وتابع ليقول «العمل السينمائي يبدأ بالورق (السيناريو) الذي يقطعه المخرج إلى مشاهد، ثم تقطع المشاهد إلى لقطات «shots». هذه المشاهد واللقطات تأخذ أرقاماً، ويتولى «الكلاك» كتابة هذه الأرقام على لوحة «الكلاكيت» التي تتضمن إذ ذاك رقم المشهد، ورقم اللقطة (الشوت) ورقم العدسة الجاري التصوير بها ورقم علبة الخام التي يجري تصوير المشهد عليها، وكذلك الوصف التفصيلي لحركة الممثل أثناء اللقطة، وأمر المخرج بطباعة هذا المشهد من عدمه. وبعد ذلك ـ والكلام ما زال لـ«منعم» ـ يدوّن الكلاك هذه التفاصيل في دفتر التقارير أو «الربورات» الذي يتسلمه من شركة الإنتاج، وهو عبارة عن أصل وأربع صور. ومن ثم يُعطي الأصل وصورة إلى المخرج والمنتج، بينما تتوزع الصور الثلاث الأخرى على النيجاتيف والبوزيتيف والطبع. ويصل في المرحلة النهائية إلى المونتير الذي يعيد ترتيب مشاهد الفيلم وطبعه حسب الأرقام والنتائج التي دوّنها «الكلاك» قبل ذلك، حتى يخرج الفيلم بعد ذلك إلى الصورة المرئية للمشاهد».

في رأي «منعم» أن «الكلاك» شخص مهم للغاية داخل البلاتوه، إذ يتوزع تركيزه على مفردات العمل داخل الأستوديو. «والكلاك الشاطر هو الذي يستوعب الفيلم جيداً ويكون ذهنه حاضراً ويكتب تفاصيل المشهد بشكل جيد، وبمجرد أن يسأله المخرج عن مشهد ورقمه وتفاصيله تكون إجابته حاضرة، ولا يقوم بالتخلص من أوراق الفيلم إلا بعد خروجه للعرض على شاشة السينما».

عن الممثلين، قال «منعم» بصراحة «الممثل الحقيقي يظهر من أول لقطة، لكن معظم ممثلي اليوم يفتعلون، وهم بعيدون عن التلقائية، والمخرجون يصابون يا عيني بارتفاع الضغط». هذا هو رأي «منعم» لدى أداء الفنانين الذي عمل معهم في السنوات الأخيرة. ويتابع «جيل الوسط لا يزال يحترم فنه، مواعيدهم مضبوطة، ويعملون بدافع المتعة منهم حسن حسني وسوسن بدر ووحيد سيف ولطفي لبيب وأحمد بدير وصلاح عبد الله، لكن جيل الشباب معظمهم مشغول بأشياء بعيدة عن العمل الفني، مثل لون شعره ومنظر حواجبه وعرض قفاه». ولكن منعم يستدرك فيقول «ولكن يظل أيضاً هناك نجوم شباب يحرصون على قيمة الإبداع والفن. فأحمد السقا فنان مجتهد وواعٍ يقرأ السيناريو جيداً، وأحمد حلمي ممثل ذكي ويحترم فنه، وكذلك محمود عبد المغني، ومن الفنانات داليا البحيري والموهوبة منّة شلبي».

وثار سؤال فجائي حول السر في وجود الفنان حسن حسني في اغلب أفلام هذا الجيل، حتى أن هناك مزحة تقول«أذكر ثلاثة أفلام شبابية لم يمثّل فيها حسن حسني؟»، فأجاب «منعم» على الفور بلغة السينمائي المحترف «حسن حسني يا بيه قماشة عريضة، يمكن أن يلبس جلباباً في محل جزارة ويكون مقنعاً، ويمكن أن يكون رجل أعمال يرتدي سلسلة ذهبية في رقبته ويكون أيضاً مقنعاً، يمكن أن يكون أباً أو ضابطاً أو ترزياً أو بائعاً أو عاملاً في السيرك. لكن الحال يختلف مثلا مع الفنان عزت أبو عوف الذي لا يمكن أن يتخيله المشاهد جزاراً مثلا».

وحول فرص نجاح هذا الفيلم أو ذاك يعترف «منعم» بصعوبة التنبؤ بنجاح أي فيلم أو فشله أثناء التصوير، «فهذه مسألة نصيب ورزق. عملت في فيلم كان الجميع يتوقع له نجاحا كبيراً جداً لكنه فشل وهو فيلم «علي سبياسي» بطولة الفنان حكيم، وكذلك فيلم «كركر»، الذي كان كل طاقم التصوير يضحك مع كل مشهد من مشاهد محمد سعد، لكن في دور العرض لم يضحك الجمهور وفشل الفيلم. وبالعكس كان هناك فيلم كنت أتوقع له الفشل لكنه نجح وهو فيلم «أوقات فراغ» قام بالتمثيل فيه مجموعة من الشباب استطاع المخرج أن يوظفهم صح».

وعن مستقبل السينما يقول «منعم» إن «السينما على يد المخرجين الشبان تجد طفرة واضحة ... فعام 1990 كان إنتاج السينما سبعة أفلام، لكن اليوم هناك 50 فيلماً». أخيراً، «منعم» لا يحلم بأن يكون مخرجاً مثل حسن الإمام أو عاطف سالم، قائلاً «أنا كبرت على ذلك، المخرج تظهر موهبته وهو في العشرين من عمره، لكن كل ما أطمح إليه أن أكون مساعد مخرج. من الضروري صعود سلم السينما خطوة خطوة، وليس من المهم أن يراني الناس، بل المهم أنني استيقظ في الصباح واذهب إلى عمل أحبه، في حين هناك الملايين من الناس يذهبون إلى أعمالهم وهم يشعرون بالملل، واهم شيء في هذه القصة «الستر» والحمد لله على كل شيء».