صمود الخط العربي في سراييفو انتصار للثقافة على السياسة

د. كاظم حجي ميليتش لـ «الشرق الأوسط» : ولدت وفي فمي ريشة

هذه المنطقة من شرق أوروبا تعبر في الواقع عن وشائج ثقافية عميقة رغم تبديل الحرف العربي باللاتيني في تركيا («الشرق الاوسط»)
TT

ما زال للخط العربي في البلقان، ولا سيما في البوسنة والهرسك، مكانة ثقافية مرموقة لم تستطع كل محاولات تجفيف الينابيع القضاء عليه، بل أثبت الخط العربي أن الثقافة أقوى من السياسة ولو تقمّصت الأخيرة دوراً ثقافياً فوقياً مزيفاً. الخط العربي في هذه المنطقة من شرق أوروبا يعبر في الواقع عن وشائج ثقافية عميقة، رغم تبديل الحرف العربي باللاتيني في تركيا. ويقول الدكتور كاظم حجي ميليتش، الأستاذ بأكاديمية الفنون والمحاضر بكلية الفلسفة في سراييفو، وهو الذي تعلّم فن كتابة الخط العربي على يد أسرته، لـ«الشرق الاوسط»: «توارثت أسرتي هذ الفن، وكان كثيرون منهم محترفين. وأنا اعتبر وراثتي لهذا الكنز وراثة جينية وليست مهنية فقط. لقد ولدت شغوفاً بفن كتابة الخط العربي، وذلك له علاقة طبعاً بالتربية الاسلامية والثقافة الاسلامية ... فالحب لا يولد من فراغ». وتابع حجي ميليتش «جدي كان خطاطاً وكذلك أبي وأعمامي ... وهكذا تجدني ولدت وفي فمي ريشة». وعن الأعمال التي تشغله حالياً أفاد بأنه عاكف حالياً، إلى جانب أعمال أخرى، على ترميم إرثه الفني الأسري من اللوحات/ موضحاً «جدي الشيخ الحافظ نذير كان خطاطاً ماهراً وأنا أعمل على إعادة ترميم أعماله». مستقبل الفن الإسلامي في البلقان: والجدير بالذكر، أن معرفة الدكتور حجي ميليتش بفنون الخط العربي وبفنون أخرى مزجها بعضها مع بعض بعد انتقاله إلى تركيا وحصوله على درجة الدكتوراه في الفن الاسلامي، ومن ثم تدريسه هذه المادة طيلة 10 سنوات في دولة الخلافة العثمانية. وفي ما بعد عاد إلى البوسنة ـ كما يقول ـ «من أجل بناء جيل يحمل المشعل، وليس مجرد أسر تتوارث العمل في هذا المجال». ويضيف الدكتور حجي ميليتش «لأول مرة لدينا طلبة في أكاديمية الفنون يدرسون هذا النوع من أنواع المعرفة في سراييفو بل في البوسنة والبلقان. وإلى جانب فن الخط العربي يتعلم الطلبة فن ترميم الكتب والمخطوطات، أما في كلية الفلسفة فألقي محاضرات في تاريخ الفن الاسلامي والعمارة الإسلامية». وهو يؤكد على أن «الثقافة الاسلامية راسخة، وهي إرث إنساني واجب على المدنية المعاصرة صونه والمحافظة عليه والاعتراف بجماليته وفضله. قبل 150 سنة كانت الثقافة الاسلامية مبعدة، ولا سيما، الفن الاسلامي بل كل ما تشتمّ فيه رائحة الاسلام. وفي الميادين الأكاديمية كان يدمر كل ذلك بتعصب شديد، كما تغيب المقاييس الأكاديمية عند الحديث عن كل ما هو اسلامي، ولكن تلك الروح ظلت في إنسان هذه المنطقة المسلمة وفي قلبه ووجدانه وعقله وهي تعود تدريجياً لتتبوأ مركزها الطبيعي شعبياً وأكاديمياً من جديد». الدكتور كاظم حجي ميليتش حريص جداً على التشديد على أن «ترميم اللوحات والكتب جزء هام من ترميم الذاكرة الفنية والثقافية للمسلمين وتاريخ الفن الاسلامي ... فالجذور مهمة في أي عمل ثقافي مؤسسي». ولذا فهو يولي هذا الجانب اهتماماً كبيراً، ولا سيما، ترميم اللوحات والكتب القديمة، وبعضها مذهّب، أي أن لها حوافاً من ذهب وعناوين مذهبة أو زخارف أو ما إلى ذلك، وهذا الفن جزء من الفن الاسلامي وتاريخه. وبعد إنجاز ترميم الكتاب يصار إلى تغليفه وتجليده لكي يبدو جديداً، حتى لو ظلت آثار الترميم والتجديد بادية للعيان. ولا يكتفي الدكتور حجي ميليتش بترميم الكتب واللوحات بل يضيف عليها «الإبرو» وهو نوع من الزخارف التي تضفي أشكالا جمالية إضافية على اللوحة. وأشار الباحث إلى إن لديه الكثير من الكتب واللوحات التي تحتاج لترميم وإضافات من «الإبرو» بما فيها تلك اللوحات التي تحتوي على زخارف ذهبية. ولقد اهتم كثيراً خلال السنوات الفائتة بترميم الكتب التي أحرقت أو اتلفت أثناء العدوان على البوسنة 1992ـ1995، وهو يتعاون في ذلك مع مكتبة الغازي خسرف بك في سراييفو التي لديها آلاف المخطوطات والكتب. وحول المشاركات في التظاهرات الثقافية الدولية كالمعارض الثقافية، قال الدكتور كاظم حجي ميليتش «لقد زرت الرياض والكويت ودبي والشارقة، كما زرت باكستان إلى جانب إقامتي للدراسة والعمل في تركيا، وكان انطباعي العام عما شاهدته جيداً. ففي البلاد العربية هناك تطور وكثير من الأعمال في مجال الخط العربي وثمة الكثير من الخبراء في ميدان الترميم والخط العربي على رأسهم الخطاط الشهير أحمد شلبي وهو من أحسن الخطاطين». وعما إذا كان شارك في معارض للخط العربي أفاد بأنه كان له معرض يتكون من 80 لوحة، وأردف «وسيكون لديّ معرض في فرنسا قريباً، كما سألقي محاضرات عن الفن الاسلامي هناك. ثم لديّ متحف خاص على بعد 50 كيلومترا من سراييفو يضم مجموعة من تحف التراث الاسلامي، وهي أكبر وأفضل مجموعة في البوسنة». وعن أكبر مشروع شارك فيه، قال إنه «مشروع روايال في تركيا الذي تناول تاريخ التراث والفن الاسلامي في تركيا على امتداد ألف سنة، كما يعمل على تحقيق 30 مشروع ترميم قيمتها بملايين اليوروات منها كتاب مؤمن عليه بـ7 ملايين دولار». وتابع حجي ميليتش إن لديه «مشروع كتاب في الخط العربي مهم جداً للطلبة والباحثين وكل شخص يرغب في معرفة خصائص الخط العربي وسماته وتاريخه، وأنا على وشك الانتهاء منه». واستطرد «وسيكون هناك كتاب آخر عن فن الكتاب باللغات البوسنية والانجليزية والعربية وسيكون أول كتاب من هذا النوع في العالم». وعن أعز أمنيات حياته المهنية قال «لا بد أن أنجز كتالوغا للمتحف وأمنية حياتي تأسيس معهد للفن الاسلامي وهذه هي أكبر أمنية عندي لكي أموت وأنا مرتاح البال». هذا، ورغم وجود أشخاص مثل الدكتور حجي ميليتش تواجه عودة الفن الاسلامي إلى أكاديمية الفنون في سراييفو العديد من التحديات التي تبطئ عملية احياء الفن الاسلامي في منطقة البلقان، أو بتعبير أدق انتشاره وإشعاعه. ومن هذه المشاكل مشكلة ترويج الأعمال واللوحات المنجزة ونقص المواد المطلوبة لإنجاز بعض الأعمال وهي تحتاج لجلبها من تركيا، وتلك التي تستخدم في فن «الإبرو». وحول هذه الناحية يشرح الدكتور حجي ميليتش قائلا «نعم، لدينا مشاكل تتمثل في الصعوبات التي تعترضنا بخصوص المواد الأولية التي نحتاجها للعمل، لا سيما، أن الشباب الذي أقبل على تعلم هذا الفن بحاجة لمن يرفع معنوياته. ويجب أن يتلقى المساعدة المطلوبة خاصة أن لدينا أول طالبة تأخذ درجة الماجستير، وهذا يحدث لأول مرة في أوروبا». ويضيف «لدينا اليوم طلبة موهوبون وعلماء موهوبون، يريدون العمل وتحقيق أشياء كثيرة، وبالتالي من الواجب توفير الدعم اللازم لهم مادياً ومعنوياً، وكما قلت نحمد الله على أن لدينا علماء في شتى المجالات». لقاءات مع الطلبة: وأجرت «الشرق الاوسط» لاحقاً لقاءات مع بعض طلبة أكاديمية الفنون وهم وليد خوجيتش، 23 سنة، وآلن غلوشاتش، 22 سنة، وألفيس حيدروفيتش، 22 سنة، الذين تحدثوا عن دوافع إقبالهم على تعلم فن الخط العربي وتطلعاتهم وكيف ينظرون إلى المستقبل ومعظمها دوافع اسلامية. إذ يقول وليد «منذ كنت في سن الخامسة عشرة وأنا مهتم بهذا الفن، وازداد حبي له من مطالعتي للكتب الاسلامية، وقد حفظت الكثير من سور القرآن في هذه السن» وقد سجل وليد في معهد الفنون ليصبح طالباً بعد ذلك في أكاديمية الفنون، ويرنو للاحتراف في مجال الفن الاسلامي. أما ألفيس فقال إنه اختار أكاديمية الفنون ودراسة الخط العربي لأنه «أولا مسلم .. وثانياً لأنني أحب الفن الاسلامي وتحديداً الخط العربي، وكانت لدي رغبة في أن أواصل في قسم الرسم بأكاديمية الفنون والتعرف على فروع الفن الاسلامي، مثل الرسم على الماء أو «الإبرو» وهو جزء من الفن الاسلامي الحديث وغايتي هي الجمع بين الرسم الحديث وفن الخط العربي، وأرغب في الحصول على البكالوريوس في هذ المجال».

وأما آلن فقال إنه اختار هذا الطريق «لأن جمال الخط العربي يجذب كل فنان، فمن كل حرف يمكن تركيب أشكال مختلفة ... وفي نفس الوقت يضيف فن «الإبرو» بعداً جمالياً على الحرف العربي ومن أجل اتقان الفنين دخلت أكاديمية الفنون». ويؤمن آلن بأن المزج بين الخط العربي وفن «الإبرو» يحقق أشكالا أكمل من الجمالية.