المخرجة رنده الشهال صنعت «طائرة من ورق» وأقلعت على وجهتها الأخيرة

يصل جثمانها إلى لبنان غداً وتوارى الثرى في طرابلس الجمعة

رنده الشهال (أ.ف.ب)
TT

وقع خبر وفاة السينمائية اللبنانية رنده الشهال صاعقاً على محبيها وأصدقائها وعائلتها في لبنان يوم أول أمس. ولعل كل الذين علموا بالسرطان الذي عانته طوال السنتين الأخيرتين، كانوا قد تخيلوا ان هذه المرأة القوية بشخصيتها الصلبة لن تترك مجالاً للمرض كي ينتصر عليها. أما وأن الخبر الذي جاء من باريس قد تبين انه صحيح، وان المخرجة الممتلئة حيوية وتصميماً ستعود جثماناً هامداً إلى مسقط رأسها طرابلس، بعد ربع قرن من الغربة، وكانت المشاريع والرؤى ما تزال تغويها، فإن الحزن يتضاعف ونبرة الأسى لا تفارق من واكبوا عزيمتها السينمائية التي لا تكلّ. يتكلم بحزن إبراهيم الهندي، أحد الذين عرفوها باكراً، متذكراً ـ وكأنما شريط يعود ليظهر أمامه ـ كيف كانت رنده الصغيرة تواظب على حضور نشاطات نادي السينما في طرابلس في سينما «شهرزاد»، تناقش وتحاجج باندفاع قلّ نظيره بين الفتيات اللواتي في عمرها. من ذلك الوقت كانت رنده تحلم بأن تدير الكاميرا بدل ان تكون متفرجة سلبية. ويوم أخبرت والدها بذلك وافق على الفور. فيلمها الروائي الأول «شاشات الرمل» تأخر حتى عام 1991، وهو يجسد حياة مدينة صحراوية تموت بذخاً وغنى، وسارة بطلة الفيلم تحلم بحرية تبقى سراباً. فيلم يحظى بجائزتين لكنه لا يبعد رنده عن لبنانها المصاب، إذ ستعود إليه عبر فيلمها الوثائقي الأشهر «حروبنا الطائشة» الذي تستنطق خلاله عائلتها فرداً فرداً، وتسحب اعترافاتهم حول الحرب، في محاولة لمحاسبة الذات قبل محاسبة الآخر. يحظى هذا الفيلم الذي يخلط الخاص بالعام بجائزة «معهد العالم العربي» عام 1996. فيلمها «الكافرون» 1997 حول الإسلاميين والعلاقات العربية الغربية الذي تدور أحداثه في القاهرة يمر سريعاً، لكن فيلم «المتحضرات» الذي تصرّ الرقابة اللبنانية على ان تقتطع أجزاء منه تصل إلى 47 دقيقة، بحجة ألفاظه النابية وخروجه عما يستطيع ان يحتمله الذوق العام، تشعل من أجله المخرجة حرباً مع الرقابة وضجيجاً إعلامياً كبيراً، وقد عرضته في مهرجانات عدة وحاز جائزتين خارج لبنان. لم تتمكن رنده الشهال من ان تبقى متفرجة أمام تحرير الأسيرة سهى بشارة من السجون الإسرائيلية فخصتها عام 2000 بوثائقي مؤثر يلقي الضوء على تجربتها القاهرة في السجن، ويعرّف بفتاة تحولت بعد أسرها إلى رمز. أما فيلم «طيارة من ورق» عام 2004 الذي سيكون الروائي الرابع والأخير لها، فقد لا يكون أفضل افلامها، لكنه أثار اهتماماً بسبب موضوعه حول مأساة سكان الجولان بين الطرفين الإسرائيلي والسوري، معاناة إنسانية احسنت المخرجة اختيارها لتلقي الضوء على مشكلة نادراً ما اعتنت بها السينما. فعرض الفيلم في صالات عالمية، ونال جوائز عدة من بينها «جائزة الاسد الفضي» في «مهرجان البندقية السينمائي» عام 2003. واقيمت للفيلم احتفالية في لبنان في «قصر اليونسكو» بحضورها، ومنحت يومها وسام الارز اللبناني من رتبة فارس تقديراً لأعمالها. وقد نعى وزير الثقافة اللبناني تمام سلام رنده الشهال يوم امس وقال: «رندة الشهّال... اسم سيتذكره محبو الفن السابع للجرأة التي طبعت أعمالها، وللاسلوب الواقعي في طرح القضايا بقساوتها الفعليّة لا بالتجميل الفني والمواربة والتقليل من وطأتها. فهي في معالجتها للمواضيع السياسية كانت تحكي قصص الحب والحرب والوطن والمنفى، وكانت تقف عند التقاطعات الثقافيّة مع تلك القضايا التي تشغل بال الانسان العربي» وقد ذكر وزير الثقافة بأن «رنده الشهال رفضت ان تتقاسم جائزة اليونسكو للسلام مع المخرج الاسرائيلي عاموس غيتاي عام 1999» ووصفها سلام بأنها «الشاهد على فترة قاسية في لبنان والعالم العربي».

لكن رنده الشهال التي انغمست في الحرب حتى بات اي فيلم يبعدها عنها، يبدو نافراً وغريباً، أرادت في سنواتها الأخيرة ان تخرج من هذا السجن الذي حبست نفسها فيه دون ان تدري. وبعد ان قابلت الفنانة هيفاء وهبي في أميركا مصادفة قررت ان تكتب وتخرج فيلماً كوميدياً موسيقياً تدور أحداثه في عالم كرة القدم، تلعب فيه هيفاء وهبي دور صاحبة مطعم ويشارك في تمثيله الأميركي فال كريمر، والإسبانية فيكتوريا ابريل، لكن المرض أعاق الكتابة وفرملها، وبقي الفيلم معلقاً ينتظر من يكمل فصوله.

رنده الشهال رحلت، ويصل جثمانها إلى لبنان يوم غدٍ (الخميس) ويوارى الثرى يوم الجمعة في مقبرة عائلتها بطرابلس. وكانت المخرجة التي تعلم بخطورة مرضها قد زارت هذه المقبرة قبل أقل من سنة راغبة في تسجيل فيلم وثائقي يروي سيرتها، لكن المرض لم يمهلها والموت قسى عليها، وها هي تعود إلى مدينتها التي تسكن بعيداً عنها منذ أكثر من ربع قرن، لتأوي إلى ترابها بقرب والديها اللذين كان لهما اعظم الأثر في صلابتها وسيرتها العنيدة.