مجلس الشورى.. ملحمة الحياة النيابية والبرلمانية في مصر

أغلقه إسماعيل صدقي بالسلاسل وشهد محاكمة عرابي وثورة سعد زغلول

أعضاء المجلس يلتفون حول تمثال نصفي لأحمد ماهر الذي اغتيل في المكان نفسه
TT

كانت اللوحة الوحيدة الموجودة في القاعة الرئيسية لمجلس الشورى المصري لوحة - أو جدارية - «مدرسة الإسكندرية» للفنان السكندري محمد ناجي، أحد رواد الحركة التشكيلية في مصر، وتوجد لوحة مماثلة لها في مبنى محافظة الإسكندرية. جمع ناجي في هذه اللوحة بمهارة صور كل المشاهير والفلاسفة والأعلام الذين توافدوا على الاسكندرية عبر العصور. ويبلغ مقاس الجدارية 7م× 3م، واستغرق رسمها 12 سنة كاملة بين عامي 1940 و1952 وقد ربط ناجي فيها الماضي بالحاضر عبر تاريخ مصر؛ فظهر فيها ابن رشد، وجمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، ومصطفى عبد الرازق، والقديسة كاترين. كما ظهر فيها أحمد شوقي، وهدى شعراوي ومحمود مختار وخلفهم أحمد لطفي السيد، والدكتور مصطفى مشرّفة، والدكتور طه حسين، ومحمود الفلكي عالم الفلك ... كل هؤلاء تجمعهم خلفية واحدة هي بحر الإسكندرية.

ثم في مركز اللوحة صورة لامرأة تمثل مدينة الإسكندرية ذات الإشعاعات الحضارية. وفي الجانب الأيمن نجد صورة للعالم الإغريقي الكبير أرخميدس، وصورتين للشاعرين اليونانين كفافيس وانجاريتي، وعلى أقصى اليمين توجد صورة كونتيسكا رجل الأعمال اليوناني الذي تبرع لإنشاء أكبر مستشفى، وأطلق عليه اسمه، وسكيلاريدس الذي أطلق اسمه على أشعر نوع للقطن المصري، وآكيس الطبيب السكندري الذي عاش في خدمة مرضى الجذام وقد مات به، وإلى جوار هؤلاء جميعاً الإله الأسطوري اليوناني ديونيزيوس. جدران مجلس الشورى المصري الذي التهمه حريق مروع أخيراً شهدت أحداثاً ومواقف وصراعات ومشاورات بين حكام مصر وبين أعضائه، كما شهدت قرارات صعبة ولحظات حرجة من تاريخ مصر الحديث، لعل أبرزها "ثورة عرابي" ضد الاحتلال البريطاني. وصدور قانون المطبوعات عام 1909، ورفض مدّ امتياز قناة السويس، ومعارضة "معاهدة 1936"، واتفاقيتا السودان 1899. تبدأ قصة مجلس الشورى منذ أن جاء الخديوي إسماعيل محدثاً انقلاباً في نظام الحكم في مصر، فيوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1866 أنشأ "مجلس شورى النواب" وهو البداية الحقيقية للحياة النيابية في مصر، وكان يتكوّن من 76 عضواً، ينتخَبون لمدة ثلاث سنوات، يُصار انتخابهم من قبل عُمد البلاد ومشايخها، وكان انتخاب عدد الأعضاء من الأقاليم يجرى وفق تعداد السكان.

لكن هذا المجلس لم يستمر أكثر من ثلاثة أشهر، إذ تعرّض إلى انتكاسة على يد البريطانيين الذين قرّروا هدم النظام النيابي في مصر بذريعة "تهدئة الأحوال" والاستبدال به نظاماً يستطيعون من خلاله فرض سيطرتهم. وبعد أقل من سنة صدر قانون ينص على أن يؤلف «مجلس شورى القوانين» الذي افتقر إلى الصلاحيات النيابية.

القاعة الرئيسية في المجلس استضافت محاكمة الزعيم احمد عرابي، التي أجريت يوم 3 ديسمبر (كانون الاول) عام 1882 وقضت بإعدامه. ثم خفّف الحكم بعد ذلك مباشرة ـ بناءً على اتفاق مسبق بين سلطة الاحتلال البريطاني والقضاة المصريين ـ إلى النفي مدى الحياة إلى سرنديب (سري لانكا أو سيلان سابقاً).

وبعد تولّي عباس الثاني مسند الخديوية عام 1892 وانتعاش الحركة الوطنية المصرية، وتعالي أصوات الاحتجاج التي طالبت بدستور كامل، رضخت سلطات الاحتلال البريطاني لرغبة المصريين في وقف مد امتياز قناة السويس. وعرفت قاعة مجلس الشورى حفلا مهيباً بمناسبة افتتاح الجامعة المصرية – جامعة القاهرة اليوم - كجامعة أهلية فى 21 ديسمبر 1908، حضره الخديوى عباس الثاني وبعض رجال الدولة وأعيانها. وفي مساء يوم الافتتاح بدأت الدراسة في الجامعة على هيئة محاضرات، ولمّا لم يكن قد خصّص لها مقر دائم وقتذاك، كانت المحاضرات تلقى في قاعة مجلس الشورى أحياناً. وفي عام 1923 كانت «قاعة الدستور» بالمجلس شاهداً على مولد أول الدساتير المصرية، فكان دستور 23 رد فعل لثورة سعد زغلول. وتألفت أول وزارة شعبية برئاسة الزعيم سعد زغلول في يناير (كانون الثاني) 1924، وانطلقت الحياة النيابية في مارس (آذار) 1924 بعد ظفر "الوفد المصري" بأغلبية ساحقة.

لقد اتسمت حفلات افتتاح الدورات البرلمانية للمجلس بالأبهة والفخامة. ففي منتصف الساعة التاسعة من صباح يوم السبت ‏15‏ مارس (آذار) عام ‏1924‏، بدأ أعضاء البرلمان المصري الجديد من النواب والشيوخ، يفدون على دار البرلمان ويأخذون أماكنهم‏، وكان ضرورياً الحضور بملابس السهرة لأعضاء المجلسين - الشيوخ والنواب‏ -، وبكسوة "التشريفة الكبرى" والنياشين لحضرات المدعوين العسكريين‏،‏ وبكسوة "التشريفة" والنياشين لحضرات المدعوين من المصريين والأجانب الموظفين‏، وبملابس السهرة والنياشين للمدعوين من المصريين والموظفين والأجانب غير الحائزين رتبة، وبـ"الفراك" والنياشين للمدعوين من أعيان الأجانب‏،‏ وبالملابس المعتادة لذوي الملابس البلدية من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب ومن المدعوين. وفي الساعة التاسعة والدقيقة الأربعين أطلقت المدافع إيذاناً بتحرك الموكب الملكي، فخرجت المركبة الملكية تجرّها ستة جياد‏، وقد جلس فيها الملك فؤاد الأول وإلى يساره رئيس الوزراء سعد باشا زغلول‏، وتقدم الموكب الملكي مركبة تجرّها أربعة جياد وبداخلها كبير الأمناء وكبير الياوران‏.‏ ووصل الموكب إلى دار البرلمان في تمام الساعة العاشرة‏، وترأس الجلسة أكبر الأعضاء سناً المصري باشا السعدي‏.

من أشهر أيام المجلس التاريخية «يوم تحطيم السلاسل»، ففي السادسة من مساء يوم الاثنين ‏23‏ يونيو (حزيران) 1930 إبان احتدام الأزمة بين الملك والوفد، وفي اليوم الثاني من قبول الملك فؤاد استقالة وزارة مصطفى النحاس باشا، وتكليف إسماعيل صدقي باشا تشكيل الوزارة الجديدة. اصدر الملك فؤاد مرسوماً بتأجيل انعقاد البرلمان ذي الأغلبية الوفدية الساحقة شهرا‏ًً،‏ وقد أصر رئيس مجلس النواب‏ ويصا واصف‏،‏ ومعه رئيس مجلس الشيوخ‏ عدلي يكن‏، على أن يتلى المرسوم على المجلسين مجتمعين‏، وهو ما وافق عليه صدقي بشرط‏ ألا يتكلم أي عضو من أعضاء مجلس النواب بعد تلاوة المرسوم‏.‏ غير أن ويصا واصف رفض هذا الطلب الذي اعتبره تدخلاً من السلطة التنفيذية في شأن هو من صميم اختصاصاته‏، ورد صدقي باشا على ذلك بإغلاق أبواب البرلمان بسلاسل من حديد، ووضع القوات المسلحة حوله. المشهد بدأ بتطويق الشرطة للبرلمان من الساعة الثانية بعد الظهر. وكان عند كل فتحة من الفتحات الأربع المؤدية إلى دار النيابة في شارع الشيخ ريحان وشارع دار النيابة صف واحد من الجنود على رؤوسهم خوذهم السوداء‏. وظلّت الأماكن المحيطة بهم خالية حتى قربت الساعة من الخامسة، وقد بكّر بالحضور بعض الأعضاء‏. وتزايدت الحشود رغبةً بكسر هذا الحصار حول مبنى البرلمان، وتعالت الاحتجاجات.. وتوافد زعماء الوفد‏: النحاس‏،‏ ومكرم عبيد، والنقراشي‏، وبهي الدين بركات‏.

ووصل المشهد إلى ذروته بعد وصول ويصا واصف بك في تمام السادسة‏. وبعد مداولة قصيرة مع النحاس‏، نادى على رئيس قوة البرلمان وسأله عن معنى إقفال الأبواب بالسلاسل، فقال إنه لا دخل له في ذلك، وعندما رد الرئيس "إنني آمرك بتكسيرها‏". عندها خاف الضابط وأحضر اثنين من الجند الذين يقيمون في البرلمان لإطفاء الحريق برتبة الشاويشية ومعهما بلطة، وأخذا يعملان في السلاسل حتى انكسرت ودفع الأستاذ ويصا بك الباب بيده فانفتح، وأشار للنواب بالدخول، فدخلوا هاتفين مصفقين، واتجهوا مباشرة إلى قاعة الاجتماع، واتخذوا أماكنهم كالمعتاد‏.. وعلّقت الصحف المصرية والبريطانية على هذا اليوم التاريخي وسمته «يوم كسر أو تحطيم السلاسل».

البهو الفرعوني لمجلس النواب، شهد أيضاً جريمة اغتيال أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء، بعد توقيعه على معاهدة 1936. وكذلك ميلاد الأساسية لثورة 23 يوليو (تموز) 1952 فى مصر بعدما ألغت الثورة الدستور السابق وإعلنت الجمهورية وحُلّت الأحزاب. وفي عام 1956 صدر الدستور الجديد، وشُكل بمقتضاه "مجلس الأمة" في 22 من يوليو (تموز) 1957 من 350 عضواً منتخباً، وقد فضّ هذا المجلس دور انعقاده العادي الأول فى 10 فبراير (شباط) من عام 1958. وفي فبراير 1958 أيضاً، شهد المجلس على قيام الوحدة بين مصر وسورية، وألغى دستور 1956، وصدر دستور مؤقت لـ"الجمهورية العربية المتحدة" في مارس 1958 شكل على أساسه مجلس أمة مشترك من المعيّنين (400 عضو من مصر و200 عضو من سورية) وعقد أول اجتماع له يوم 21 من يوليو 1960، واستمر حتى 22 يونيو عام 1961. ووقع الانفصال بين مصر وسورية يوم 28 سبتمبر (أيلول) 1961.

وبعد تولّي الرئيس أنور السادات منصب الرئاسة، وضع دستور مصر الدائم عام 1971. وجاء استفتاء 19 ابريل (نيسان) 1979 الذي وافق فيه الشعب المصري على إنشاء «مجلس الشورى». وفي عهد الرئيس حسني مبارك شهد المجلس التعديلات الدستورية للمادة 76 في اطار الاصلاح الدستوري. وبحريقه يوم 19 أغسطس (آب) المنصرم تفقد مصر منبراً سياسياً عريقاً تجسّدت عليه ملحمة الحياة النيابية والبرلمانية فيها منذ أكثر من 200 سنة.