المصورون المتجولون يصارعون من أجل البقاء

بعد حلول عصر الاختراعات الرقمية

المصورون المتجولون بشارع محمد الخامس بمدينة الرباط، في حديث عن الهموم اليومية للمهنة (تصوير: مصطفى حبيس)
TT

كانت شمس الظهيرة، في هذا الصيف القائظ، تلهب بأشعتها الحارة، أرصفة شارع محمد الخامس، الشريان الرئيسي لمدينة الرباط، بينما لجأ بعض المصورين المتجولين إلى الوقوف تحت ظلال أشجار النخيل، في الساحة الرئيسية المقابلة لبناية البرلمان، في انتظار زوار تقودهم خطواتهم لالتقاط صور للذكرى.

كان هؤلاء المصورون محملين بعدة الشغل المتمثلة في آلات التصوير، بشكلها القديم، وبأكياس بلاستيكية سوداء صغيرة في أيديهم، بداخلها حبوب القمح والذرة الصغيرة، لجلب طيور الحمام التي يفضل الزبائن أخذ صور معها، وهي تحلق برفيف أجنحتها فوق رؤوسهم، أو تحط فوق أكتافهم أو أيديهم، لالتقاط حبات الزرع.

يقول المصور لحسن الوادي، إن الموازنة المخصصة لشراء الحب لطيور الحمام، 20 درهما يوميا (ما يوازي 2.74 دولار)، بينما لا يتجاوز ثمن الصورة الواحدة 10 دراهم (1.37 دولار)، مشيرا إلى أن الدخل اليومي لم يعد كافيا لمواجهة متطلبات الحياة اليومية من كراء ودواء وغذاء.

ويتدخل زميله أحمد أيوبي، ليطرح معاناته مع الآباء الذين يسمحون لأبنائهم بمطاردة طيور الحمام، واللعب بها كأنها دمى، وحين ينهاهم عن ذلك بأدب ولياقة، يتعرض لوابل من التعنيف والسب، بدعوى أن هذه الطيور ليست من ملكيته، بل هي ملك مشاع للجميع. ويفسر أيوبي ذلك «بغياب الوعي التربوي والسلوك الاجتماعي لدى البعض»! وليست هذه المضايقات وحدها مصدر شكوى المصورين المتجولين، بل هناك أيضا متاعب المهنة من الناحية الصحية، وخاصة أيام الشتاء، إذ تتحول هذه الساحة إلى فضاء خال تصفر فيه الريح، مما يعرضهم لنزلات حادة من البرد.

ويضيف المصور المتجول أيوبي: «هناك عوامل أخرى تسهم في نسف صحتنا، ومن بينها التلوث الناتج عن استنشاق دخان السيارات، طيلة ساعات النهار، وكذلك المشاكل الناجمة عن توتر العلاقة أحيانا مع بعض الزبائن، مما يتسبب في إصابتنا بأمراض تفتك بنا جميعا، وبين الحين والآخر، نفقد واحدا من زملائنا». يتوقف أيوبي لحظات لاسترجاع أنفاسه قبل أن يتمم كلامه: «أنا شخصيا أعاني من مرض الربو، بدرجة متقدمة، وهي الدرجة الرابعة، وكثيرا ما نقلت بشكل طارئ إلى المستشفى. وها هي آلة النفخ المخصصة لمرضى الربو لا تفارق جيبي، واستعملها بمعدل 6 مرات في اليوم، ويتطلب مني العلاج كل شهر حوالي 2000 درهم (274 دولارا)، لا أستطيع توفيرها لولا أريحية بعض الأفراد من العائلة الذين يتضامنون معي في محنتي الصحية».

ويؤكد ابراهيم العنصري، رئيس جمعية المصورين المتجولين، أن عددهم في تناقص مستمر، بفعل إصابتهم بأمراض المهنة: «لقد كان هنا في شارع محمد الخامس 32 مصورا، ولم يبق منهم حيا سوى 24 شخصا، وكلهم يعانون الألم في صمت وعزة نفس، بسبب ممارسة مهنة لم تعد تورث سوى أمراض السكري والأعصاب»! وسط الساحة المقابلة لمبنى البرلمان، ولفندق «باليما» الشهير، يبدو المصور محمد اليعقوبي، رجلا في كامل الأناقة، كأنه فنان حقيقي، بمعطف أصفر، وقميص أزرق، وسروال أبيض، وحذاء لامع، ونظارة سوداء، وابتسامة واسعة، وكأنه يطبق عنوان فيلم الممثل المصري الراحل أحمد زكي «اضحك علشان تطلع الصورة حلوة»، وأوعز اليعقوبي حرصه على أناقته بقوله: «إن هذه المهنة تتطلب من ممارسها أن يكون حسن المظهر، بشوش الوجه، لأنه يقابل أناسا من المفروض أن يأخذوا فكرة طيبة عنه».

واليعقوبي، عمره 68 سنة، ويتحرك بخفة ونشاط، كراقص الباليه، وأوضح أنه ورث المهنة عن والده، وتعلمها منذ أن كان عمره 16 سنة، وهو يحمد الله ويشكره لكونه استطاع من خلالها أن يربي أولاده، وعاش حتى رأى أحفاده يركضون حوله.

ولكنه لا يريد لأي واحد منهم أن يمتهن حرفة التصوير «لأنها مهنة بدون مستقبل»، وحين سألناه عن التأمين الصحي؟ أجاب رافعا إصبعه وعينيه نحو السماء «التأمين عند الله، هو ضامن الصحة والرزق».

ويشكو زميله العربي الخطيب من مرض السكر، وقال: إنه يمارس التصوير منذ أن كان عمره 18 سنة، وهو اليوم في الثانية والستين من عمره.

وأعترف بأنه عشق هذه المهنة بعد أن أغرته: «لو عرفت أنها ستموت، لما ربطت مصيري بها، واليوم أعود كل مساء إلى البيت بألم في الرجلين، لكثرة الوقوف، وحالتي الصحية تتدهور يوما بعد يوم، وتكاليف العلاج غالية».

يذكر العنصري، رئيس جمعية المصورين، أن التأمين والتغطية الصحية، والحق في التقاعد من المطالب التي رفعتها الجمعية منذ مدة للمطالبة بتحقيقها، دون أن تجد أدنى استجابة لها.

«والشيء الوحيد الذي استطعنا الظفر به، كمكسب للجمعية، يقول العنصري، هو تنظيم المهنة وتطهيرها من الدخلاء عليها، من خلال وضع حد لتسليم الرخص، التي كانت تمنح من طرف الإدارة لموظفين لا علاقة لهم بالتصوير، فيعمدون إلى كرائها مقابل مبالغ مالية معينة تدخل إلى جيوبهم آخر كل شهر، وهم قاعدون في مكاتبهم»! وانبرى أحمد الحمزاوي، الملقب بـ«الريفي»، نائب رئيس جمعية المصورين المتجولين، ليقول إنه «لولا مجهود الجمعية لما كان هناك تنظيم للمهنة وتأطير لها، وما زلنا نطالب بتطبيق المطالب الأخرى، المتعلقة بالتأمين والتغطية الصحية وغيرها».

وأجمع كل المصورين المتجولين، الذين قابلتهم «الشرق الأوسط» في الساحة الرئيسية المقابلة لمبنى البرلمان، على أن المهنة في طريقها إلى الانقراض بسبب الهواتف الجوالة المزودة بالكاميرا، وكذا انتشار عدسات التصوير الرقمي، التي جعلت الزبائن يستغنون عن خدماتهم.

واعتبر العنصري، رئيس جمعية المصورين المتجولين، أن «هذه الاختراعات الرقمية هي أكبر عدو لهم»، وقال «لقد قضت على رزقنا اليومي بنسبة 80 في المائة، وأصاب الكساد عملنا، ولا نستطيع توفير مدخول مستقر يفي بحاجيات أسرنا».

وأشار العنصري إلى أن أغلب المصورين في الخمسينيات والستينيات من أعمارهم، ولا يستطيعون تبديل الحرفة، أو تعلم مهنة أخرى بعد أن أفنوا فيها سنوات شبابهم، لقد كانت في الأول مهنة مطلوبة، ودخلها لا بأس به، قبل أن تظهر الهواتف الجوالة والتصوير الرقمي، وكذا الكاميرات التي ترمى بعد استعمالها مرة واحدة فقط! ويحتفظ أحمد الحمزاوي، المصور المتجول، بلقطات بعضها بالأبيض والأسود، تؤرخ لمراحل من تاريخ المغرب، وضمنها صور لزعماء مغاربة، قال إنه أخذها لهم في مناسبات مختلفة، مثل المؤتمرات الحزبية وغيرها، مثل محمد بوستة، الأمين العام لحزب الاستقلال السابق في مقر الحزب بساحة باب الحد بالرباط، والفقيدين عبد الرحيم بوعبيد وعلي يعته في بعض الاجتماعات السياسية، ومحمد نوبير الأموي، الأمين العام للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، (اتحاد عمالي )، وعمر عزيمان (سفير المغرب حاليا في مدريد)، بمقر وزارة العدل، يوم كان وزيرا، وأحمد عصمان، رئيس التجمع الوطني للأحرار سابقا، بمقر سكناه في شارع الأميرات بالرباط.

والذكرى التي لا ينساها الحمزاوي أبدا، هي تلك التي يحكيها على الشكل التالي: «كان المحجوبي أحرضان، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية آنذاك، في اواخر السبعينيات من القرن الماضي، على وشك السفر في مهمة مستعجلة إلى ليبيا، وفي حاجة إلى جواز السفر، فنودي عليّ لتصويره في مكتبه بعمارة السعادة، بشارع محمد الخامس، بمدينة الرباط، خصيصا لهذا الغرض».