مسحراتية في العراق: أكثر ما يخيفنا مرور دورية أميركية

مدن ساخنة تخلو منهم.. والحكومة تزود بعضهم بهويات للسير رغم حظر التجول

المسحراتي يعود الى مدن عراقية («الشرق الأوسط»)
TT

حمل صالح أبو السحور طبله في إحدى ليالي رمضان من عام 2005 ليقوم، وكما اعتاد عليه منذ أكثر منذ عشرين عاما، بإيقاظ أهالي  (المقدادية) التابعة لمحافظة ديالى، عالنا موعد السحور وقرب بدء الصيام عن الأكل والشرب، كما اعتاد اهل المقدادية سماع صوت نقرات عصاه على جلد طبله، التي ترافقها كلمات (سحور يا أمة محمد سحور)، لكنه هذه المرة لم يتمكن من ايقاظ جميع ابناء بلدته الصغيرة، خاصة انه المسحراتي الوحيد فيها، حيث خبأ الليل ما لم يكن ضمن توقعات اهل بلدته. فاحدهم توقع بأن صالح أبو السحور، الرجل المسن، لن يستطيع الاستمرار بنقر الطبل في ليل بارد جدا من ليالي منطقة ديالى الشمالية، واخر يقول انه لن يشمل جميع المناطق بتجواله، لكن اخرين استمروا بانتظار مرور صالح، لكن انتظارهم لم يدم حتى الصباح، حيث وجد الاهالي جثة صالح وبالقرب منه وضع طبله الذي لم يجرؤ أي شخص اخر من سكان المقدادية على حمله في رمضان بعد ذلك حتى يومنا هذا، وتبين لاحقا ان الدوافع وراء مقتل صالح ابو الطبل مذهبية.

غير ان رمضان الحالي يختلف عن الاعوام السابقة، أثر التحسن الأمني الملحوظ، كما يقول أبو رحاب في مدينة الصدر، شرق بغداد. ويضيف قائلا «هناك طقوس شارفنا تقريبا كعراقيين على نسيانها، مثل لعبة المحيبس وزيارة الاقارب والمناطق المقدسة، الان عادت من جديد بما في ذلك المسحراتي».

ويقول أبو رحاب ان المسحراتي لم يغب عن مدينة الصدر طوال الاعوام الماضية، ويروي حادثة وقعت قبل اعوام قائلا: «ان مسلحين اصطدموا مع القوات الاميركية بالقرب من قطاع 57، واستمر الصدام ساعة تقريبا ولان دورنا قريبة من المكان، بقينا نسمع صوت الطبال وهو يصيح سحور، لكن بخوف شديد ووجدنا انه لجأ الى منطقة آمنه وتسمر في مكانه واستمر بالتطبيل رغم الاشتباكات».

وتتمتع مدينة الصدر بعادات وتقاليد تميزها عن بقية المدن، فهي ذات كثافة سكانية عالية وشرائح اجتماعية فقيرة، وقلة فرص العمل دفعت، بحسب كلام ابو رحاب، الكثير من الشباب الى امتهان مهنة ابو الطبل، التي لم تنقطع يوما عن المجتمع، ويضيف «فكان الطبال في زمن صدام لا يستطيع شراء طبل كبير مستورد من الخارج، ويستعيض عنه بصفيحة الزيت الفارغة (التنكة)، التي كانت تصدر صوتا اقل اعتدلا من صوت الطبل الياباني الحالي، الذي يذهب البعض الى ايران للبحث عنه لاستخدامه في شهر محرم، واحياء ذكرى عاشوراء وايضا في رمضان». ويضيف ان «الفرق الان ان ابو التنكة كان مرغما على المرور في كل شوارع المدينة، أما الان فكل اربعة شوارع يوقظها بضربة واحدة»، مشيرا الى ان «ابو الطبل هو عادة يكون من عائلة فقيرة جدا فيؤدي خدمة للناس مقابل هدية تعطى له اول يوم من ايام عيد الفطر وعادة ما يكون مبلغا من المال، حيث يبدأ المسحراتي بطرق جميع ابواب المحلة واخذ هديته، وهنا نستبعد ان تسيس هذه المهنة فلا علاقة لها بالصراعات والاحزاب فهي خدمة للاجر والثواب».

وتجولت «الشرق الاوسط» في شوارع مدينة الصويرة التي كانت تعد من المناطق الساخنة، وبعد تتبع صوت الطبل التقينا بالمسحراتي فخري السيد حسن (ابو صباح)، الذي بين انه يخرج للسحور للسنة السادسة على التوالي، ولم يذكر انه تخلف يوما عن اداء مهمته، التي اسماها بالاخلاقية او الايمانية، قبل ان تكون مصدرا للعيش، ويقول «رغم التطور التكنولوجي ووجود المنبهات، الا ان اغلب الناس اسمعهم وخلال مروري من امام دورهم يترحمون لي، وهذا يخرج لي صحن حلويات واخرى تقدم لي طبق طعام».

واضاف ان الامر لا يخلو من خطورة، ولهذا جرت العادة ان تنظم مهنة المسحراتية عبر دوائر مختصة، مثل المجالس البلدية ومديريات الشرطة وادارات الاقضية والنواحي، فيجب ان تتوفر جملة شروط، بل اختيار الطبال، ومنها ان يكون من ابناء المنطقة وسمعته جيدة وغير محكوم عليه بجناية او غيرها، ويعرف جميع طرق المنطقة، والاهم من ذلك مشهود له بالسمعة الطيبة والتدين. ويضيف ابو صباح ان «الخوف موجود داخل كل انسان، لكن مشكلتنا هو اننا نعمل بظرف استثنائي»، ويوضح قائلا «أفاجأ مرات عديدة بمرور دوريات اميركية بالقرب مني وابقى اضرب على الطبل واصيح سحور يا ناس، وانا اشعر بالخوف الشديد واقول سيوجه علي احدهم سلاحه ويقتلني، لكنني علمت في ما بعد ان القوات العراقية تقوم باعلام القوات الاميركية بوجود مثل هذه الطقوس في رمضان، أي ان الاميركيين يأخذون حذرهم ايضا، وهنا زودتنا الحكومة المحلية بباجات وضعت عليها صورنا واسماءنا، يحق لنا من خلالها السير في الليل رغم حظر التجوال».