تلاوين الفن والتراث اللبناني على درج الجميزة وسط بيروت

أعمال فنية تستلهم كوارث الحروب الأخيرة

الموسيقيان ايلي و مايك يتنقلان على الأدراج وهما يعزفان على آلتي الأكورديون والغيتار (الشرق الاوسط)
TT

تراث وفن وحكايات من تاريخ وطن اعتاد شعبه أن يترنّح بين السلم والحرب، تلك هي العناصر التي لونت درج مار نقولا الممتد من منطقة الجميزة الى حي السراسقة الشهير بدوره وقصوره في شرق بيروت. فصورة «درج الفن» الذي افتتح نشاطه هذا الشهر شكلت مناسبة فنية تتجدد منذ أكثر من خمسة عشر عاما وتفتح ابواب الفرص لفنانين هواة تدرجوا على احدى زوايا الدرج الى أن أصبحوا محترفين، لكل منه بصمته الخاصة، التي زيّنت مكانا استضاف ثلاثة آلاف سنة من الحضارة، وبقي شاهدا على عراقة هذه المنطقة، الأمر الذي أكسبته هوية ثقافية خاصة. بين الأمس واليوم لم يختلف المشهد كثيرا الا بحركته الثقافية السنوية. وكالعادة انقلبت هوية الشارع المحيط بالدرج واكتسى ديكوره المطلوب ليكون معرضا لأعمال متنوعة تجمع اعمال مائة فنان، من خلال ما تقدمه محترفات لبنانية من مختلف المناطق والانتماءات السياسية والطائفية، ليجمعهم تحت أشعة شمس صيف بيروت الحارقة، هاجس واحد هو عرض اعمالهم التي ان اختلفت هويتها الا أنها تبقى مجتمعة تحت عنوان كبير واحد هو التراث اللبناني الذي صار ينبض حياة على وقع موسيقى الشابين أيلي ومايك اللذين يتنقلان على الأدراج وهما يعزفان على آلتي الأكورديون والغيتار.

لكل محترف قصته التي تعكسها أعماله. هذا بيت قروي بطابقين يجمع كل متطلبات الحياة الطبيعية من غرفة الجلوس العربية التقليدية الى المدفأة والنرجيلة وهذه لوحة تجسّد بابا حديديا وآخر خشبيا وتلك تبدو كأنه لا ينقص نوافذها الخشبية الا أن تفتح على مصراعيها... أعمال حرفية صنعتها يدا المحترف اللبناني شوقي يزبك الذي اعتاد نقل التراث من القرية الى جدران كل بيت لبناني اختار صاحبه أن يزين منزله بعبق الماضي وهندسته المعمارية، وذلك بعدما رمّم بيتا يزيد عمره عن المائتي سنة من دون ان يستغني عن طابعه التقليدي، واختاره منزلا ليقطن فيه مع عائلته. ويشرح يزبك سرّ فنه فيقول: «اعمالي مصنوعة من مادة تعرف بمعجونة الحجر المؤلفة من ثماني مواد، أعمد الى تجفيفها لتصبح صلبة ثم أحفرها بالشكل الذي أريده لألونه بعد ذلك بالألوان الترابية ولا سيما اللون الحجري ليبدو طبيعيا».

في الجهة المقابلة من الدرج، حيث ترفرف الأعلام اللبنانية، تقف شخصيات شارل نصّار المسالمة شاهدة على الحروب التي عاشها أبناء هذا الوطن على امتداد عشرات السنوات. مواد قاتلة تحوّلت مجسمات مصنوعة من الصواريخ والشظايا التي جمعها نصّار من يوميات الحروب اللبنانية منذ الحروب الأهلية حين كان طفلا ينتظر هدوء القذائف ليخرج من الملجأ الى شوارع بيروت ويلملم أدلة المعارك، مرورا بحرب يوليو (تموز) 2006 ومعارك نهر البارد في شمال لبنان وصولا الى معارك بيروت في مايو ( أيار) الماضي.

كره نصّار للحرب جعله يبتكر وسيلة أخرى متناقضة لهدف أدوات الحرب محوّلا الجماد القاتل الى تحف فنية تزيّن زوايا البيت وتضفي اليه نفحة حياة جميلة تضفيها الآلات الموسيقية أو الأعلام التي تحملها أيدي شخصياته اضافة الى مجسمات لحيوانات ذات حضور لافت ومميّز.

بين هذه وتلك تتوزّع عشرات الرسوم التي أنتجتها أيدي رسامين محترفين اختاروا درج الفن لعرض أعمالهم. مواضيع متنوعة ذات ألوان تتدرّج بين الداكن الى الفاتح الصارخ كتلك التي اختارتها الفنانة التشكيلية كريستين مزهر لتغوص بعيدا في لوحاتها وألوانها القوية متبعة مبدأ اللاحدود في كل الأمور. كذلك، كانت الشجرة محور لوحات الرسامة الشابة رنا بساط التي تعتبرها رمزا لحياة الانسان، فتجمعها حينا مع البحر وتدمجها حينا آخر مع مغيب الشمس. وللفن الحي حصته في درج مار نقولا حيث اختار المصوّر الفوتوغرافي شربل طربيه فكرة «الأشياء اللبنانية» فصوّر أبرز ما يعرف به الفلكلور والتقاليد والأزياء اللبنانية جاعلا اياها لوحات جدارية تتنوّع بين العملة اللبنانية القديمة المتمثلة بالليرات والقروش والسبحات وأوّل عبوة مشروبات غازية صنعت في لبنان وبين فنجان القهوة العربي والطربوش الأحمر الذي لم يكتف بابرازه في اللوحة، انما جعل منه وعاء للضيافة بعدما وضع فيه الفستق المحمّص الذي وزّعه على الزائرين. في زاوية أخرى من درج الفن يقود جورج المرّ حرفة من نوع آخر، ها هو يحمل ازميله بيده وينهمك في تنفيذ مهمته من دون توقف وهو يشرح لزائريه عن حرفته: «أستوحي لوحتي من مخيلتي أو من كتب التاريخ. أرسمها على قطع صخرية لبنانية أصيلة تعرف بالحجر الكدّاني أو الطبشوري ومأخوذة من بيوت قديمة في مدينة بعلبك تعود الى مئات السنين، لأعمل بعد ذلك على حفر حدودها بدقة وأنتج لوحات أو مجسمات فنية». ويضيف «عملي المضني يحتاج الى جهد وساعات عمل طويلة، وهو يجمع بين 62 مصلحة فنية لأن هذا العمل وحده لا يطعم خبزا بل عليّ أن أعمل لخمس سنوات متواصلة كي أجمع راتب وزير لشهر واحد».

وللموسيقى حصة في هذا المهرجان السنوي الذي يمتد على خمسة أيام، اذ ستقدم جمعية انماء الجميزة المنظمة للحدث حفلات يومية تتنوّع بين السوبرانو والجاز والرقص، اضافة الى عروض فنية أخرى خاصة بالأطفال.