متحف محمد محمود بالقاهرة.. موسوعة حية لتطور الفن في القرن العشرين

من مقتنياته: «زهرة الخشخاش» لفان جوخ و«الحياة والموت» لجوجان

TT

على بعد خطوات من نهر النيل بالجيزة يقف متحف محمد محمود خليل وحرمه، شامخا بطرازه المعماري الفريد منذ ما يقرب من مائة عام، يرتوي من نهر الحياة، ويجدد نبضها في شرايينه، جاذبا مئات الزوار كل يوم من محبي الفن وتاريخه على مر العصور. المتحف الذي تم إنشاؤه في عام 1915، تم تشييد واجهته الشرقية لتطل على نهر النيل، وعلى طراز «آرنوفو» يتجلى هذا الطراز بروعته في الهيكل المعدني والزجاجي الذي يعلو مدخل المتحف، منذ أن كان قصرا وقبل تحويله إلى متحف من تلك الواجهة. أما واجهته الغربية فيغلب عليها الطراز الكلاسيكي الجديد، الذي يتيح الجمع بين زخارف من طرز مختلفة في صياغة فنية تتسم بالبهاء والثراء. وظل القصر منذ إنشائه حتى عام 1960 مسكنا لأسرة محمد محمود خليل، ومقرا لمجموعته الفنية الثمينة، إلا أنه بناء على رغبته وتنفيذا لوصية زوجته تحول القصر في 23 يوليو (تموز) 1962 إلى متحف يحمل اسمه واسم زوجته الفرنسية اميلين هيكتور لوس.

عرف محمد محمود خليل بحبه للفنون واقتنائه لكل ما هو قيم ونفيس منها، إضافة إلى كونه رجل سياسة من الطراز الرفيع، فكان وزيرا ورئيسا لمجلس الشيوخ وذا دور مهم في الحياة الثقافية في مصر، وراعيا للحركة التشكيلية من خلال رئاسته لجمعية محبي الفنون، التي اشترك في تأسيسها في عام 1924.

هذا إلى جانب دوره البارز في التبادل الثقافي بين مصر وفرنسا خلال النصف الأول من القرن العشرين، واعترافا بدوره في هذا المجال حصل على أرفع الأوسمة والنياشين الفرنسية.

ولد محمد محمود خليل في القاهرة وتوفي في باريس عام 1953 وفي عام 1897 سافر إلى فرنسا لدراسة القانون، وفي عام 1903 تزوج من سيدة فرنسية وعادا إلى القاهرة معا وأقام في قصره بالجيزة منذ عام 1918.

وفي عام 1937 تولى وزارة الزراعة في حكومة الوفد، وفي الفترة من 1939 إلى 1940 تولى رئاسة مجلس الشيوخ، حتى انتخابه مراسلا للأكاديمية الفرنسية للفنون الجميلة في 20 أكتوبر (تشرين الاول) 1948، وفي عام 1949 أصبح خليل عضوا في الأكاديمية، وفي نفس العام أشرف على إقامة معرض لفن الديكور بباريس بعنوان «مصر.. فرنسا». كنوز فنية نادرة ما يجذب الزائر لمتحف محمود خليل تلك المقتنيات الفريدة التي تعد من أكبر وأشهر المجموعات الشخصية في الشرق، ومن أهم المجموعات العالمية وأكثرها شهرة، بما تضمه من أعمال فنية ولوحات تنتسب جميعها إلى الفنانين الرواد الذين اقترنت أسماؤهم بميلاد الاتجاهات والتحولات الفنية المتلاحقة التي شهدتها الحركة التشكيلية في أوروبا، خاصة في فرنسا خلال القرن التاسع عشر.

وتبرز المدرسة التأثيرية التي مهدت لظهور فنون القرن العشرين في أغلب لوحات المتحف البالغ عددها 208 لوحات تعبر عن هذه الاتجاهات الفنية المختلفة، وكذلك مراحل تطور مبدعيها من هؤلاء الفنانين، ومن أهمهم جوجان ورينوار وفان جوخ ومونييه، إلى جانب مجموعة كبيرة من التماثيل البرونزية والرخامية والجصية لكبار مثالي القرن التاسع عشر.

كما تشمل مقتنيات المتحف مجموعة نادرة من علب الأنرو ذات الطراز الياباني، التي قلما يوجد مثيل لها في مجموعات أخرى، وهي المقتنيات التي تشغل الدور الأرضي للمتحف ومعه الطابقان الأول والثاني، بينما يشغل الدور تحت الأرضي الإدارة والمكتبة ومركز المعلومات وقاعة كبيرة لمناقشة البحوث.

فيما يضم الدور الأرضي للمتحف خمس قاعات، منها قاعة مستديرة يتوسطها تمثال «نداء السلاح» من البرونز للفنان رودان، وهو من رواد المدرسة التأثيرية في النحت، وتضم القاعة أيضا فازتين من الصين كبيرتي الحجم، وفازتين من اليابان ومجموعة من أطباق تركية.

وتتميز هذه القاعة بوجود سجادة حائط كبيرة ترجع إلى القرن السابع عشر من بلجيكا، وكذلك أقدم إناء في المتحف ويرجع إلى القرن الأول قبل الميلاد، وهي أنفورة رومانية من الزجاج المنفوخ.

وفي داخل هذه القاعة أيضا صورتان لمحمد محمود خليل وحرمه، وعدد من الفازات الصينية التي ترجع إلى القرن السادس عشر، وعند دخول الزائر للقاعة الثالثة بهذا الدور يجد أمامه لوحة كبيرة للفنان أمان كانت مهداة إلى اميلين زوجة محمود خليل، وفي نفس القاعة بعض من قطع الأثاث الخاصة بمحمود خليل.

وفي نهاية هذا الدور توجد القاعة الأخيرة وبها لوحة كبيرة تمثل رحلة صيد كانت مهداة إلى الرئيس الراحل أنور السادات، إضافة إلى لوحة بيضاوية تمثل صورة الأميرة دي فاجرام الزوجة الثانية لنابليون بونابرت وابنة ملك النمسا فرنسيس الأول، وكان زواجهما سياسيا بالدرجة الأولى.

ومن أشهر قاعات الدور الأول الثمانية، قاعة فيها لوحة فان جوخ الشهيرة «زهرة الخشخاش». بينما تضم القاعة الثانية فاترينتين تحويان مجموعة من التماثيل البرونزية الصغيرة للفنان الفرنسي أنطوان لويس وكان عشقه حديقة النباتات بفرنسا وشغفه بدراسة الحيوانات والطيور، سببا بارعا في إظهار أدق التفاصيل بتلك اللوحة التي رسمها. كما تضم القاعات الثالثة والرابعة والخامسة مجموعة من اللوحات النادرة منها لوحة «الحياة والموت» لجوجان، وهي من أشهر اللوحات المعروضة بالمتحف واختيرت لتكون البوستر الأساسي لمعرض اورساي بفرنسا في عام 1994، إضافة إلى خمس لوحات تمثل المدرسة التأثيرية ولوحات أخرى بالألوان المائية. وفي القاعة السادسة من هذا الدور ست لوحات معظمها مناظر طبيعية بالألوان الزيتية، وتتميز بألوانها الفضية والرماديات في معظمها، فيما ضمت القاعة السابعة مجموعة من الفترينات التي تحتوي على 58 لوحة صغيرة الحجم، وتضم أيضا أكبر مجموعة في الشرق الأوسط وهي من علب اللاك اليابانية بزخارفها الدقيقة وألوانها الرائعة. كما تشمل هذه القاعة مجموعة من الفترينات بها قطع فنية وزجاجات صغيرة من أحجار نصف كريمة، كما تعرض خزفيات بأحجام مختلفة ويتوسط القاعة تمثال جبس للكاتب الفرنسي بلزاك نحته الفنان رودان وهي نسخة مهداة من رودان إلى بلزاك. وفي القاعة الثامنة 13 لوحة فنية وهي بألوان زيتية ويميزها لوحتان بألوان مشرقة ساطعة يغلب عليها اللون الأزرق وهي «لوحة شاطئ تروفيل»، وفي القاعة تمثال من الرخام.

وفي الدور الثاني توجد سبع قاعات تحتوي على عشرات اللوحات الزيتية لفنانين من أوروبا، يمثلون المدارس الفنية التشكيلية المختلفة، لعل أبرزها المدرسة التأثيرية في فن النحت، إضافة إلى لوحات أخرى لفنان مصري هو سعيد الصدر، وهي لوحة عبارة عن قطيع حمير من الطين المحروق.

كما تحتوي هذه القاعات على لوحة عملاقة من الألوان الزيتية تمثل جسرا «كوبري» فوق مستنقع نبات مائي للفنان كلود مونيه، بجانب ما تضمه هذه القاعات من زهور وورد لفنانين من أوروبا.

ومنذ أوائل تسعينات القرن الماضي ووزارة الثقافة المصرية تولي اهتماما خاصا بتطوير القصر. وفي ذلك يقول الفنان محسن شعلان، رئيس قطاع الفنون التشكيلية بالوزارة وضعت تصميمات خطة التطوير والتحديث للمتحف اهتماما بهذا الصرح الكبير الذي يعكس قيمة معمارية وفنية كبيرة، بحيث يتم إعداد بنيته الأساسية اللازمة لإقامة الأنشطة الثقافية والعروض الفنية.

ويضيف شعلان إن تطوير المتحف استهدف إقامة علاقة أوثق وأكثر فاعلية بين الجمهور وأنشطة المتحف الثقافية، ولذلك روعي في تحديث المتحف المفاهيم الحديثة لعمارة المتاحف، وأن تصبح القاعات الحديثة الملحقة به من أجمل قاعات العرض في متاحف القاهرة الفنية.