«أبو شادي» الذي أحيا مهنة الحكواتي قبل 20 سنة في دمشق

ما زلت وفيا لمقهى النوفرة.. لكنني أعمل في أماكن أخرى لأحسّن دخلي

الحكواتي «أبو شادي» ومستلزماته في المقهى («الشرق الاوسط»)
TT

مع انتشار التلفزيون في العاصمة السورية دمشق، في أوائل عقد الستينات من القرن الماضي، بدأت مقاهي دمشق تتخلى عن «الحكواتية» الذين كانوا يحيون ليالي المقهى على كرسيهم المميز المرتفع وأمامهم طاولة صغيرة وتحتهم مسند خشبي. وبلباسهم الدمشقي الفولكلوري كان «الحكواتية» يسلّون الزبائن بقصص «عنترة وعبلة» و«الظاهر بيبرس» و«صلاح الدين»، وغيرها من قصص التاريخ، بأسلوبهم المعتاد منطلقين من عبارة: «قال الراوي يا سادة يا كرام!...» ملوحين بالسيف الخشبي في حركات حماسية وضاربين الطاولة تحتهم بأرجلهم كلما مرّ مشهد حماسي.

كانوا يروون ويتجاوب جمهور المقهى معهم صائحاً بهتافات حماسية تحيي أبطال الحكاية. وقد تحصل معركة كلامية بين الزبائن إذ ينقسمون بعضهم لجانب أحد بطلي الرواية والبعض الآخر لجانب غريمه، فيتدخل صاحب المقهى ليفصل بينهم. في العقود الأخيرة من القرن المنصرم اختفى «الحكواتي» ـ أو «تلفزيون أيام زمان» ـ من كل مقاهي دمشق وحلَ مكانه التلفزيون في واجهة المقاهي، حتى كانت مبادرة صاحب مقهى النوفرة في دمشق القديمة بإعادة الحكواتي إلى مقهاه أوائل التسعينات من القرن الماضي، وقد وجد ضالته مع «الحكواتي» رشيد الحلاق (64 سنة). الحلاق، أو «أبو شادي» الذي أطلق على نفسه لقب «حكواتي الشام» عاد ليقدم فقرات «الحكواتي» مساءً في مقهى النوفرة لمدة نصف ساعة تقريباً فجذب إليه زبائن من كل أطياف المجتمع، خاصة كبار السن وعاشقي التراث، ولكن أكثر زبائنه هم من السياح الأوروبيين الذين وجدوا فيه ظاهرة تراثية جميلة.

ثم مع تزايد اهتمام الناس بظاهرة «الحكواتي» بدأت فنادق كبيرة ومطاعم، وحتى مراكز ثقافية أجنبية وعربية في دمشق، تستعين بـ«الحكواتي» لإحياء الأمسيات، وخاصة أمسيات رمضان. وفي حين كثر الطارئون، درّب «أبو شادي» ابنه الوحيد شادي (32 سنة) على هذه المهنة التراثية ونجح الإبن في وراثة والده بهذا العمل.

في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال «أبو شادي»: «صار شادي مطلوباً مثلي وأكثر للمقاهي والفنادق والخيم الرمضانية كما أنه زاد عني بأنه يقدّم فقرة خيال الظل التراثية التي كانت تقدم في المقاهي أيام زمان. ولقد سافر شادي في رمضان هذا العام إلى بيروت بطلب من الممثل السوري سامر المصري (العكيد أبو شهاب في مسلسل «باب الحارة») لتقديم فقرة «الحكواتي» في خيمة رمضانية أقامها في بيروت. وفي رمضان العام الماضي قدم فقرة في خيمة معهد سرفانتس الإسباني بدمشق، لكنني لا أعرف إذا كان سيستمر في هذا العمل أم لا مستقبلاً؟!.. فقد شعرت أنه لم يعجبه كثيراً ويعتبره مجرد تسلية. حتى بالنسبة لي لا يعجبني .. إنها تسلية ليس لها مردود مالي جيد. إنها شهرة فارغة فقط ـ يقول أبوشادي متأوهاً ـ فأنا أجري محدود هنا في المقهى والمطعم ومعظم ما أتقاضاه أدفعه أجرة طريق حيث منزلي في ضاحية بعيدة عن دمشق، ولكنني أستفيد مما يأتيني من الزبائن، وكذلك من مكافآت اللقاءات التلفزيونية والصحافية حيث أعطي حوارات مقابل (إكرامية مادية لي) لوسائل الاعلام التي ترغب بإجراء لقاءات معي».

وسألت «أبو شادي» عن «الحكواتية» الجدد الذين اقتحموا هذا المجال في دمشق وما إذا كان يخاف من منافستهم؟

وجاءني الجواب بمثال شعبي دمشقي مبتسماً: «هل كل من صفّ الصواني صار حلواني؟!.. أنا لا أخاف من المنافسة، بل بالعكس أراها مفيدة لي. وأنا ما زلت وفياً للمقهى الذي بادر إلى عادة «الحكواتي» إلى دمشق أي لمقهى النوفرة حيث أقدم يومياً في الثامنة مساء فقرة لمدة ثلاثة أرباع الساعة، ولكني أيضاً ولزيادة نشاطي وتحسين دخلي المادي تعاقدت مع مطعم المشرقة، في حي الميدان الدمشقي، حيث أقدم هناك يومياً في العاشرة مساء وبعد مقهى النوفرة فقرة لمدة نصف ساعة. ولقد حاولت أن أغير قليلاً في مواضيع القصص التي أرويها بسبب الصعوبة في الحصول على المخطوطات. هل تصدق أنني أمضيت أشهراً وأنا أبحث عن هذه المخطوطة التي تضم قصصاً تراثية أرويها للزبائن، وتمكنت من الحصول عليها بعد جهد كبير». وتابع «يا أخي أعاني كثيراً للحصول على المخطوطات وقد يعتقد البعض أننا نقرأ فقط ما كتب في الكتب.. أنا أبحث عن المصادر الأساسية للروايات التاريخية، وهذه لا أجدها إلاَ في المخطوطات القديمة، وكذلك لأعطي الحكواتي نمطاً آخر يمتزج فيه التراث مع المعاصرة. ففي النوفرة حافظت على تقديم القصص التراثية المعروفة وبشكل مسلسل يومي على حلقات، أما في المشرقة فأقدم مثلاً تغريبة بني هلال بأسلوب جديد وبلغة ليست فصحى ولا عامية مع تعليق على العبر فيها. ففي الزمن الماضي كان الكرم والاحتفاء بالضيف حتى ولو كان المضيف فقيراً.. واليوم تحول الوضع وتغير». ثم قال: «فتغيرت الأمور كثيراً .. ولذا أقدم قصصاً قصيرة جديدة حاولت أن أجتهد فيها لها بداية ونهاية وتتناول قضايا اجتماعية معاصرة أرويها بأسلوب ساخر نقدي، وحماسي أحياناً، مثل ظاهرة انتشار الموبايلات بأيدي المراهقين ووجود ميزة «البلوتوث» فيها، وما تسببه من مشاكل اجتماعية حيث تنتقل أشياء غير جيدة من خلاله. وكل يوم أقدم عدة قصص على هذا النمط منها ما أحضرها في المنزل قبل أن أرويها أو بعضها تكون وليدة اللحظة في الفقرة التي أقدمها لظاهرة اجتماعية شاهدتها، مثلاً، وأنا على الطريق آتياً لمطعم المشرقة، ومنها أخطاء في المجتمع مثل شخص دخله محدود ويلبس ابنته أو زوجته لباساً ثميناً وكذلك وفي تنويع حكاياتي وأسلوبي قدمت في العام الماضي وبطلب من معهد سرفانتس بدمشق قصص دون كيشوت في نشاط للمعهد بأسلوب الحكواتي».