شارع فرنسا بالإسكندرية.. معزوفة من ذهب على وتر الليالي الملاح

عشقه فورستر في المساء وأطلق عليه داريل لقب «قاع المدينة»

شارع فرنسا بالإسكندرية ... ليلا («الشرق الأوسط»)
TT

زغاريد متواصلة تنبعث من شارع يعج بالبشر، الذين يصاحب صخبهم أصوات الباعة ينادون على بضاعتهم من ملابس وتحف.. هذا المشهد ينفرد به شارع فرنسا الشهير بمدينة الإسكندرية، ثاني كبرى مدن مصر. وفي المناسبات السعيدة يزداد صخب هذا الشارع ملوناً بالبهجة والفرح، من كل صنف ولون، وكل حسب غايته.

يتميز هذا الشارع المعروف أيضاً بـ«شارع الذهب» بطوله النسبي وتقاطعه مع شوارع عديدة. فهو يمتد من ميدان التحرير في حي المنشية حتى حي الجمرك ببحري، وللوهلة الأولى تجذب الزائر فيترينات المجوهرات والذهب والفضة التي تتلألأ على جانبيه. ومع فرحة الأعياد تقام فيه الأفراح والليالي الملاح، وتذهب عرائس الإسكندرية لانتقاء مصوغاتهن وسط زغاريد الأهل والأصدقاء، كما تقصده السيدات والفتيات لشراء «جهاز العروس» من ستائر وأقمشة وخلافه، والعريس مصطحباً عروسه لاختيار أثاث عش الزوجية من أعرق محلات الموبيليا.

ويعكس هذا الشارع الأوضاع الطبقية في الإسكندرية، بوضوح، إذ يمكن بنظرة واحدة إلى المارة تلمّس الحالة الاجتماعية للمدينة، حيث يتوافد على الشارع أبناء الطبقة الراقية بسياراتهم الفارهة لشراء احتياجاتهم من المصوغات الذهبية والفضة والمجوهرات، بينما يفد إليه البسطاء لشراء أقمشة يعمدون إلى تفصيلها لكسوة الصيف أو الشتاء أو لشراء الملابس الجاهزة الرخيصة. وبرغم بعد الشارع عن الطابع الفرنسي تماماً، فإن تسميته بهذا الاسم تعود إلى فترة الحملة الفرنسية. والطريف أن ثمة عدة شوارع في دول المغرب العربي وبعض بلاد الشام تحمل الاسم نفسه، بل في مدينة مراكش المغربية يشتهر «شارع فرنسا» بفنادقه الفخمة.

يقع شارع فرنسا «الإسكندراني» داخل ما كان يعرف بـ«المدينة التركية» التي بنيت في الإسكندرية أواخر القرن إلـ 16، وظلت محتفظة باسمها حتى القرن الـ 18، وتتخذ فيها المنازل شكل صف متداخل مع المساجد الصغيرة، وكانت مليئة بالبازارات (الأسواق). «السير في شارع فرنسا ـ كما يصفه الروائي البريطاني إدوارد فورستر ـ له سحر لطيف خاصة في المساء، مثيراً لبهجة التجوال بالفطرة وبلا هدف». أما ابن جلدته لورانس داريل صاحب «رباعية الإسكندرية» الشهيرة فيصف الشارع وزخمه الشعبي بأنه «شارع التتويج .. وهو قاع المدينة ومدخل للعالم البدائي». يمين شارع فرنسا كان يوجد شارع بيرونا، وكان يوجد على الجدار المقام في مدخله بقايا من النحت المصري يمثل الإلهة «سخت» التي لها رأس أسد، وينتهي الشارع في ميدان صغير يحوي المحكمة الأهلية القديمة. أما في الشوارع التي على يسار شارع فرنسا، فكانت تصطف بعض المساجد مثل مسجد الشيخ إبراهيم باشا، وفي الركن الشمالي الغربي من الميدان، يوجد مسجد طربانة ومسجد الشوربجي الذي يرجع تاريخ تشييده إلى عام 1757.

فتحي رجب، صاحب محل النجف للمجوهرات، يقول «قديماً كان شارع فرنسا خاصاً بتجار الأقمشة والموبيليا، وكانت متاجر الصاغة داخل الزنقة (زنقة الستات)، وكان الشارع يشتهر بمحلات تجار المانيفاتورة اليهود، الذين لما بدأوا بيع محلاتهم أيام التأميم تحركت عملية الإحلال وأخذت محلات الصاغة المصريين تأخذ مكانها. ومنذ ذلك الوقت يشهد الشارع زحاماً غير طبيعي أيام المواسم والأعياد وتكون نسبة شراء الذهب مرتفعة. وأصبح الإقبال قوياً على موديلات الذهب عيار 21 لرقة تصاميمها بعدما كان الطلب على عيار 18». أما محمد إبراهيم مصطفى، أحد أقدم الصاغة في شارع فرنسا، فيتذكر قائلا «الشارع ده قلب الإسكندرية التجاري، وهو مقسم لأجزاء يبدأ بمحلات الذهب ثم القماش ثم الأثاث. والشارع الموازي له هو سوق «الصيرفية» وهو خاص بالمشغولات الذهبية، وأيضاً سوق المغاربة، وحالياً به الإيشاربات (اللفاعات) والإكسسوارات، وسوق العقّادين، وسوق الخيط وهو حالياً غير موجود. في العيد تأتي الناس من الإسكندرية والمحافظات المجاورة لها لشراء الذهب والملابس، وتستمر حركة البيع حتى الساعة 4 فجراً وكأنك في عز النهار، وبخاصة في سوق ليبيا للملابس. كذلك توجد محلات الأحذية، وحتى مصانع الملابس تستمد لوازمها من هذا الشارع». ثم يضيف «أن التسمية جاءت من أن معظم الموجودين به قديماً كانوا فرنسيين ومعهم جماعات من الأرمن و«الجريك» (اليونانيين) وكان فيه تجار الأقمشة والصاغة، وكانت المحلات على شكل أكشاك خشبية داكنة اللون، وكان أكثرهم متخصصين في الألماس، وإلى الآن توجد أسماء محلات مثل «كارفورصاهجيان» و«مسلميان» وقد تملّكها الصنايعية العاملون بها. ونظراً لتكدس محلات المجوهرات الثمينة في هذا الشارع فإن الحراسة شيء مهم جداً، إذ يوجد في كل محل نظام إنذار ليتمكن الجواهرجي من الإبلاغ عن أي حادث سرقة، كما توجد كلاب بوليسية للحراسة ليلا. وفي الغالب تلتزم محلات المجوهرات كلها بالعمل من الساعة 11 صباحاً وتغلق حوالي 12 مساء. ويشير مصطفى إلى أنه عندما يشك في زبون يريد أن يبيع قطعة ذهبية يعرض عليه سعراً أقل من سعرها، فإذا وافق على البيع يبلّغ عنه ويصار إلى التحقيق معه من جانب الشرطة.

ومما يروي مصطفى عن تاريخ شارع فرنسا وقوع «حادث سرقة طريف شهده الشارع كان «أبطاله» طبيبة وأختها المهندسة، إذ أقدمت الأختان على سرقة 10 محلات مجوهرات في أيام «عيد الأم» حين عمدتا إلى تبديل خواتم مقلدة بخواتم ذهبية. وأمكن اكتشاف السرقة بعد مغادرتهما بعدما ظلتا تسرقان المحلات لمدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع ألقي القبض عليهما ووجدت الشرطة معهما 20 خاتماً مسروقاً واعترفتا. وكانت الطبيبة متزوجة من ضابط في الجيش. وفي نهاية المطاف حل الموضوع «ودياً» وتم تعويضنا مادياً بدفع ثمن الخواتم المسروقة».

وينفي الجواهرجي خالد الرفاعي وجود ورش لإنتاج المشغولات الذهبية في هذا الشارع، موضحاً «توجد ورش لإصلاح المشغولات وهي ورش صغيرة، لكن المحلات تعتمد على إنتاج الورش الكبرى في القاهرة، إذ يأتي الشغل من القاهرة عن طريق وسيط «قومسيونجي»، وهناك مصانع لها أفرع في الإسكندرية لتوزع هنا». ويضيف «يتميز الشارع أيضاً بمحلات الفضة التي تطوّرت صناعتها ولها أشكال مثل الذهب تماماً، وبدأ الإقبال يزداد عليها منذ 8 سنوات ويجري استيرادها، خاصة الخواتم ودبل الخطوبة الرجالي». ويشير الرفاعي إلى أن معظم الإقبال على الذهب الأبيض والذهب السويسري من الطبقة الراقية لأنهما يصاغان بموديلات وتصاميم رقيقة، أما الطبقات الأدنى فتفضل الذهب الأصفر ومنهم من يحب الأطقم أو الأساور والسلاسل، وبشكل عام هناك من يشتري الذهب لكي يبيعه، وهناك من يشتري لمجرد إعجابه بالشكل. وتمرّ علينا نوعيات كثيرة .. ويأتي إلينا سائحون من مختلف أنحاء العالم، فالأجانب يحبون المشغولات ذات التصاميم المصرية، أما الخليجيون فيحبون الذهب الهندي .. في هذا الشارع الذي يشبه معزوفة مرحة يتجدّد إيقاعها يومياً على وتر الليالي الملاح.