البريد المصري.. انطلق بالإسكندرية لخدمة الأجانب وطوره محمد علي تيمنا بأوروبا

قصصه ونوادره تعود إلى زمن الفراعنة

TT

تعتبر الطوابع لوحات فنية مصغرة تسجل أهم الأحداث التاريخية، وترسم ملامح لأهم الشخصيات المؤثرة في العالم، وتزداد قيمتها بمرور الزمن. أخذ العرب كلمة بريد عن اللغة الفارسية ومعناها بالعربية «مقطوع» ويقال إن «داريوس» الملك الفارسي أراد في عصره أن يميز البغال التي تحمل البريد فأمر بقطع أذنابها حتى يعرفها الأهالي ولا تستخدم في غير نقل البريد فكان الأهالي يطلقون على هذه البغال «بريد ذنب» أي «مقطوع الذنب» وقد أخذ العرب هذا الاصطلاح وأطلقوه على البريد.

لكن البريد في مصر له خصوصية وقصة موغلة في التاريخ تعود إلى عهد الفراعنة، فشهد في عهدهم تنظيما دقيقا وأرسلت واستقبلت الخطابات في الداخل والخارج عبر سعاة يسيرون على الأقدام، ويتبعون ضفتي النيل في ذهابهم وإيابهم في داخل البلاد، ويسلكون الطرق التي تمشي فيها الجيوش والقوافل التجارية إذا أرادوا السفر لخارج البلاد.

وبحسب الباحث عبد الوهاب شاكر، المسؤول عن جمع المادة التاريخية والأرشيفية لتوثيق تاريخ البريد المصري بمشروع ذاكرة مصر بمكتبة الإسكندرية، فإن البريد المصري استمر بانتظام حتى بعد استيلاء الرومان على مصر وشهد طفرة بعد فتح العرب لمصر خاصة بعد اهتمامهم بنقل أخبار الولاة إلى الخليفة وساروا على نفس النظام الذي وضعه الفرس والبطالمة من قبل، ويقال أن معاوية بن أبي سفيان أول من نظم البريد في الإسلام.

وأشار شاكر إلى أن المماليك أيضاً اهتموا بالبريد وشيدوا في كل محطة خاصة به حظائر للجياد و«خان» للمبيت وتقديم الطعام، وموظفين يتبعون ديوان الإنشاء المنوط بتنظيم البريد. وكان محمد علي هو أول من فكر في إنشاء إدارة بريدية لنقل المراسلات الرسمية في العصر الحديث، فعلى غرار السائد في أوروبا اتبع نظام الإدارة المركزية في مصر، وكان حريصاً على سرعة الاتصال بموظفي حكومته لإصدار التعليمات لهم وتلقي التقارير منهم وقد عهد بذلك إلى سعاة كانوا يتولون نقله مشاة. وكان هذا العمل مقصورا في البداية على مصر ثم امتد إلى السودان في عام 1821 عند فتحه، وعهد في نقل البريد هناك إلى سعاة يركبون الإبل» الهجانة».

في تلك الفترة أيضا أنشأ الشيخ حسين البديلي من أهل القاهرة شركة خاصة وأستأجر لها سعاة مخصوصين لنقل رسائل العامة بأجور يتقاضاها. ولما زادت الشكاوى من الأجور الفادحة اضطرت الدولة لفرض الرسوم تتفاوت بين ربع القرش وثلاثة أرباعه عن الدرهم الواحد للمراسلات التي ترسل إلى مصر الوسطى ومن قرش إلى ثلاثة قروش عن الرسائل التي ترسل إلى مصر العليا (الصعيد) ومن 36 وربع مليم إلى 61 مليماً وربع المليم عن المراسلات التي ترسل إلى السودان.

في تلك الأثناء أولى محمد على باشا عناية خاصة لجعل مصر طريقاً للبريد الدولي، فأنشأ مصلحة باسم «مصلحة المرور» واهتم بإنشاء محطات للبريد بين العاصمة وأهم مراكز القطر المصري. أما في الإسكندرية فقد أدت زيادة عدد الأجانب بمصر وكثرة مصالحهم إلى الحاجة لإنشاء بريد خاص بهم ليكون حلقة وصل بينهم وبين بلادهم، ففكر الإيطالي كارلو ميراتى في إنشاء مكتب بريد في الإسكندرية في شارع البحرية أمام باب «الكراسته»، وبدأ ينقل الرسائل من السفن التي تصل إلى الميناء ويوزعها أو يرسلها إلى المرسل إليهم. وعندما قررت الحكومة الإنجليزية في عام 1835 إرسال البريد من إنجلترا إلى الإسكندرية مرة كل شهر في طريقه إلى الهند كان كارلو ينقله إلى السويس حيث يسلمه لسفن شركة الهند الشرقية فتحمله إلى الجهات المرسل إليها، وفضلا عن ذلك قام كارلو منذ عام 1843 م بجمع وتوزيع البريد بين القاهرة والإسكندرية، وبعد ذلك امتد إلى المدن الرئيسية بالدلتا، ولما توفي كارلو خلفه في مؤسسته التي عرفت باسم «البريد الأوروبي» أبناء أخته وهم إخوان «تشينى» ثم ضموا إليهم في سنة 1847 «جياكمو موتسى» الذي أصبح مديراً عاماً «للبوستة» المصرية فيما بعد، وأنشأ خلفاء كارلو مكاتب لهم في رشيد عام،1854 ثم امتدت لمناطق أخرى في الأعوام التالية لكن الإسكندرية ظلت المنفذ الرئيسي لاستقبال وإرسال البريد المصري.

استفاد البريد في مصر أيضا من ظهور السكة الحديدية التي أعطته دفقة وحيوية وسرعة فلجأ الاخوان «تشينى وموتسى» للاعتماد عليها بدلا من السعاة المشاة وكانوا يدفعون للحكومة في مقابل ذلك مبلغا سنويا لم يتجاوز 780 جنيها.

وفي عام 1856 وقعت «شركة البوستة الأوروبية» اتفاقًا مع الحكومة المصرية ينص على نقل إرساليات البريد لمدة خمسة أعوام متتالية اعتبارًا من يناير 1856 في الوجه البحري، وسرعان ما تم تجديده باسم امتياز للشركة الأوروبية في 5 مارس 1862 لمدة عشرة أعوام أخرى، وكان لها امتياز نقل البريد الخارجي ولم يكن للحكومة المصرية أي دور في هذا المشروع.

ثم نجح «موتسى» في شراء حصة شركائه وأصبح المالك الوحيد لشركة «البوستة الأوروبية»، لكنه بعد فترة فكر في العودة إلى وطنه وأراد أن يبيع رخصته لبعض البنوك الأجنبية، فرأى الخديوى إسماعيل في ذلك فرصة لتمصير إدارة البريد فاشترى مصلحة البريد من «موتسى» مقابل 46 ألف جنيه.

وقعت الحكومة المصرية في 29 أكتوبر عام 1864 عقد شراء مكاتب البريد من «المسيو موتسى»، وفي 14 يناير1865 صدر أمر الخديوي إسماعيل بإقرار الصفقة وضم أرباح مكاتب البريد إلى إيرادات الدولة. وكان ذلك بمثابة نواة لإنشاء مصلحة البريد وفي غضون ذلك أنعم الخديوي إسماعيل على موتسى برتبة البكوية وأبقاه مديرا لمصلحة البريد، وخصص له في ميزانية حكومته مبلغا وفيرا لينفقه على تحسين المصلحة. وكانت المراسلات تنقل في بداية عهد البريد بلا طوابع فصنع «موتسى» بك طوابع البريد لأول مرة عام 1866 بناء على أوامر الخديوى.

صنعت طوابع البريد المصرية أول مرة في «جنوة» بإيطاليا عام 1866 وكانت فئاتها 10 و20 بارة و1،2، 5 قروش وتم تمصير طوابع البريد بعد ذلك بطبعها في البلاد. ففي عام 1867 طبعت الطبعة الثانية في مطبعة «برناسون» المجرية بمدينة الإسكندرية، ثم صدرت الطبعة الثالثة في سنة 1872 بالمطبعة الأميرية ببولاق.

في عام 1863 تم تأسيس شركة للملاحة البحرية بالبواخر عرفت باسم» الشركة العزيزية « فتم استخدامها في نقل البريد إلى استانبول بعد أن كان ينقل بواسطة بواخر النمسا، وفي عام 1873 اشترى الخديوي إسماعيل أسهم تلك الشركة وحولها إلى مصلحة حكومية عرفت باسم «وابورات البوستة الخديوية» فاتسع نطاق مصلحة البريد وأصبحت تملك 26 باخرة كبيرة تنقل المسافرين والبريد بين مصر وشواطئ البحر المتوسط في سورية والأناضول وبلاد اليونان وشواطئ الدردنيل والبسفور وكذلك موانئ البحر الأحمر. وهكذا توسعت خدمة البريد فأصبح للبريد المصري عدة مكاتب في استانبول وفي جدة وأزمير وفي «غاليبولى» وبيروت وقوله و«سالونيك».

أما أول مدير للبريد المصري فهو سابا باشا الذي دخل في خدمة البريد المصري في السنوات الأولى لتأسيسه وعين رئيسا لأحد أقلامه عام 1871 وظل يترقى حتى أصبح مديرا عام للبريد عام 1887، وهو أول مدير مصري يتولاه بعد فترة طويلة من سيطرة الأجانب على هذا المنصب المهم.

وخلال فترة قصيرة استطاع سابا أن ينهض بالبريد المصري كما نجح في القضاء على منافسة مكاتب البريد الأجنبية المنتشرة على سواحل مصر، وله الفضل في نشر صناديق التوفير في كافة أرجاء مصر فسهل على أصحاب الدخول الصغيرة حفظ ما يجتمع لديهم من القروش القليلة واستخدامها عند الحاجة إليها.

في أول مايو عام 1899 أنشئ نظام الخطوط الطوافة فكان يتم تكليف شخص يسمى «الطواف» بتوصيل البريد إلى المناطق النائية سيرا على الأقدام، وكان عدد هذه الخطوط يقدربنحو 384 خطاً في عام 1931، وقد بلغ عدد المحطات الواقعة على هذه الخطوط 3164 في عام 1931م .

وقد ظل البريد المصري مستقلا عن البريد الدولي إلى أن تم عقد أول معاهدة في هذا السبيل مع بريد النمسا، ثم عقدت معاهدة أخرى مع بريد إيطاليا، وفي عام 1873 عقدت معاهدة ثالثة مع بريد إنجلترا وفي عام 1874 انضم البريد المصري إلى الاتحاد العام للبريد (الاتحاد الدولي للبريد فيما بعد). ساهمت مصر في تأسيس اتحاد البريد في 15 سبتمبر عام 1874 حينما عقد مؤتمر البريد الدولي الأول بمدينة برن، وحضره مندوبو الدول ومنها ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية والنمسا وبلجيكا والدنمارك وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا واليونان.

وهكذا كانت مصر من البلاد السباقة في الانخراط في الحركة البريدية العالمية التي بدأت بأوروبا منذ أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهي تعد الدولة الوحيدة عربيا وإفريقيا التي اضطلعت بتنظيم المؤتمر البريدي العالمي في دورته العاشرة عام 1934، وقد توافق عقد المؤتمر مع الذكرى رقم 70 لإنشاء مصلحة البريد المصرية. وشهد عام 1921 إنشاء أول بريد لنقل المراسلات العادية بالطائرات من القاهرة إلى بغداد وكانت تتولى نقله فرقة الطيران الملكية البريطانية. والطريف أن اللائحة الخاصة بتنظيم البريد نصت ـ آنذاك ـ بجعل «كساء العاملين» إجباريا وصار لكل موظف كسوتان إحداهما لعمله اليومي والثانية للحفلات الرسمية والتشريفات ثم أدخلت عليه تعديلات فيما بعد شملت النوع والطراز.