«شارع المهربين» في مرسى مطروح يعيش على ذكريات الثراء القديم

كسر عزلة المصريين عن المنتجات الغربية أيام حكم عبد الناصر وتراجع دوره بخلافات «السادات ـ القذافي»

«شارع المهربين» بمرسى مطروح يرفض التخلي عن اسمه القديم («الشرق الاوسط»)
TT

«خسارة يا 76.. بعد دولين.. تزازي بشوالين طحين».. فأما الـ«خسارة» فهي تشديد إجراءات منع تهريب البضائع بين مصر وليبيا في فترة تدهور العلاقات بينهما منتصف سبعينيات القرن الماضي. وأما المقصود بالـ«76» فهو سنة صنع موديل سيارات التويوتا اللاندكروزر المجهزة لاجتياز الصحارى.. أما الـ«دولين» فنوع من الأقمشة المفتخرة التي كانت تهرب من ليبيا لمصر في فترة الانغلاق الاقتصادي أيام حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. ومعنى كلمة «تزازي» هو «التأرجح في كسل» بحسب لهجة قبائل «أولاد علي» المنتشرة على جانبي الحدود المصرية الليبية.

ويُقصد برأس هذا البيت الشعري إجمالاً أن سيارات الدفع الرباعي المجهزة للأعمال الشاقة والمستخدمة في تهريب البضائع، جار عليها الزمان بسبب تشديد الإجراءات على حدود البلدين، وتحولها إلى مجرد سيارات نقل عادية تحمل أجولة الطحين وأقفاص البندورة والركاب بين الأسواق والنجوع، وهي تسير الهوينا حزينة من حرمانها من السير بأقصى سرعتها عبر الوهاد والأسلاك الحدودية الشائكة. لكن شارع المهربين بمرسى مطروح (500 كيلومتر غرب القاهرة) الذي كانت تتكدس فيه آلاف الأطنان من السلع المستوردة حتى أواخر السبعينيات، مازال يعيش على ذكريات الثراء القديم، وهو شارع لا يزيد عرضه عن 15 مترا، فيما يبلغ طوله نحو 1300 متر ويقع في النصف الغربي من المدينة.

ويقول الحاج حميدان، من مدينة مرسى مطروح وهو يتذكر عدد المرات التي انقلب فيها بسيارته التويوتا كروزر، في مطاردات مع رجال الحدود عبر الوديان قرب هضبة السلوم، إن تهريب البضائع من ليبيا لمصر بدأ مطلع ستينيات القرن الماضي حين كان استيراد الكماليات من الخارج ممنوعاً في مصر، ومسموحاً به على نطاق واسع في ليبيا.. «كانت ليبيا في ذلك الوقت (يقصد أيام النظام الملكي) جنة الله في الأرض.. كل ما تنتجه أوروبا واليابان وأمريكا في المساء يكون في ليبيا في صباح اليوم التالي.. كنا نملأ الكروزر بالأجهزة الكهربائية مرة، وبالأقمشة مرة أخرى، وبالأحذية الإيطالية مرة ثالثة.. نتسلل بها من الصحارى والوديان الجنوبية بعد مغافلة الحراس هناك.. نفتح ثغرات في الأسلاك الشائكة ونمر.. ننزل بها (بالبضائع) على سوق التهريب في (مدينة مرسى) مطروح، وهناك نجد تجاراً قادمين من الإسكندرية والقاهرة لشحن ما يشترونه منا في سياراتهم البيجو ونصف النقل». وفقد الحاج حميدان رفاق تهريب كثيرين كانوا في مثل سنه حينذاك (في العشرينيات من العمر خلال ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي)، لكنه لا ينسى الأيام التي ازدهر فيها التهريب بشكل غير مسبوق، قائلاً إن ذلك «كان بعد النكسة». فبعد خسارة العرب لحرب يونيو (حزيران) عام 1967، واحتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء (شرق مصر)، وما تبع ذلك من شعور بالسخط بين المصريين، خففت السلطات من قبضتها على الحدود مع ليبيا، وغضت الطرف، كما يقول حميدان، عن الحركة التجارية غير الرسمية على جانبي الحدود، ما أدى لرواج التجارة في السلع المهربة.

ويضيف موسى القناشي، الذي كان يمتلك محلاً كبيراً، في مدينة مرسى مطروح، لأفخم أنواع الساتان والقطيفة والحرير وغيرها من الأقمشة الحريمي المستوردة، أن ما ساعد على رواج التهريب واتساع مجالاته بين حدود مصر وليبيا، عقب نكسة 1967، يرجع أيضاً لتوسع ليبيا في تصدير النفط، حيث بدأ الليبيون في ذلك الوقت يستوردون من الخارج، ليس لسد حاجة السوق الليبي فقط، بل للوفاء بمتطلبات السوق المصري عبر المهربين. لكن التجارة التي اعتمدت لنحو عقدين من الزمان على تهريب البضائع أخذت في التراجع وتم تحجيمها، لتضافر سببين آخرين، الأول تنامي نفوذ مجلس قيادة الثورة الذي تولى الحكم في ليبيا عام 1969، وإحكام قبضته على ليبيا بزعامة العقيد معمر القذافي، بمرور السنين، والثاني هو وقوع خلافات عميقة بين القذافي، وخليفة جمال عبد الناصر، الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، وذلك عقب انتهاء حرب أكتوبر (تشرين الاول) عام 1973، بين مصر وإسرائيل، وتمركز جانب من الجيش المصري في الصحراء الغربية المتاخمة للحدود مع ليبيا. وبداية من عام 1976، وما بعده، أصبح تهريب البضائع شبه مستحيل، بل ألزمت السلطات المصرية السائقين في ذلك الوقت بوضع أرقام على أسطح سيارات اللاندكروزر، وغيرها من سيارات الدفع الرباعي، ليسهل رصد أي محاولة لاختراق الحدود مع ليبيا، والتعرف على أصحابها بواسطة الطوافات الحدودية، ما دفع أصحاب اللاندكروزر لتحويل نشاطها من عبور الحدود ذي العائد المادي الكبير، إلى نقل الركاب وبضائعهم بين الأسواق والنجوع.. وفي مثل هذه الأجواء ظهرت الأغنية التي يقول مطلعها: «خسارة يا 76 بعد دولين تزازي بشوالين طحين». ومع أن السلطات المحلية بمرسى مطروح أعطت عناية خاصة لشارع التهريب على مر السنين التالية، وجعلته شارعاً ذا اتجاهين، وغيَّرتْ اسمه عدة مرات لأسماء مختلفة، إلا إن أياً من تلك الأسماء لم تحفظه الذاكرة ولو لأسابيع.. ليعود الاسم القديم للتداول. ومن الأسماء التي أُطلقت على شارع التهريب ولم تصمد طويلاً اسم «شارع المعلمين» وبعد ذلك اسم «شارع المدرسة الثانوية»، بسبب وجود معهد للمعلمين ومدرسة ثانوية في مرسى مطروح في نفس الشارع، وكان هذا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.

أما الاسم الرسمي في الوقت الحالي لشارع التهريب فهو شارع «الشهيد العقيد رضا مفتاح السيد»، وهو اسم لضابط شرطة من أبناء مطروح توفي في حادث سير في عام 2000. واختار المجلس المحلي هذا الاسم اعتقادا منه بأن ذلك سيلغي الاسم القديم الذي لم يعد يعبر عن الواقع، وخاصة أن عقيد الشرطة «الشهيد»، كان مصدر فخر لأبناء المدينة.

..«عقيد الشرطة الشهيد كان مسؤولا عن شرطة السياحة بمطروح حتى خرج على المعاش، وهو من الشخصيات المحبوبة بمرسى مطروح، وكان هناك أمل في أن يتغير اسم الشارع ليحمل اسمه، لكن هذا لم يتحقق حتى الآن، رغم أنه هو الاسم الرسمي للشارع».. يعلق الدكتور عادل عبد الكريم، المدير في مديرية الصحة بمطروح، ويقول عن تفسيره لاستمرار غالبية مواطني مطروح استخدام الاسم القديم للشارع، إن السبب هو أن.. «الناس مع الاسم اللي حفظوه، وأصبح كأنه جزء من العادات والتقاليد.. رغم إنه لا يوجد تهريب الآن، لكن يمكن الناس لديهم أمل في الثراء مرة أخرى، بعودة التجارة بين مصر وليبيا سواء بالتهريب أو بإقامة منطقة حرة بين البلدين». عضو المجلس المحلي الشعبي بمركز مطروح، أيمن شويقي، يؤكد أن اسم الشهرة للشارع حتى اليوم مازال هو الاسم القديم؛ «شارع التهريب».. ويضيف أن سبب التصاق الاسم العتيق بالشارع، يرجع إلى أن.. «الناس كانت تأتي بالبضائع الأجنبية، قبل الانفتاح بمصر، عبر الحدود مع ليبيا، وكان يتردد على هذا الشارع وافدون من مدن مصرية كالإسكندرية ودمنهور وطنطا والجيزة وصولا للقاهرة. ومع فتح الحدود بين مصر وليبيا في بداية التسعينيات من القرن الماضي، أصبحت البضائع تأتي بشكل آمن، وبعد سداد الجمارك، عبر الطريق الرسمية، إذ كانت مصر قد تخلصت من الانغلاق الاقتصادي وأخذت بسياسية الانفتاح الاقتصادي منذ أواخر السبعينيات. كما أن مرسى مطروح أصبح بها سوق جديد له اسم معترف به رسميا هو «سوق ليبيا»، يقع على بعد شارعين من الشارع التهريب القديم. كما أصبح المسؤولون في مصر وليبيا يتحدثون عند زياراتهم لمرسى مطروح عن أملهم في تحويل المنطقة الحدودية بين البلدين لمنطقة حرة مستقبلاً. ولم يتبق من عالم التهريب الزاخر بالحكايات وقصص المغامرات والثراء غير اسم «شارع التهريب».

وانتهى عصر «الـ76 والدولين»، لكن اسم الشارع، «شارع التهريب»، لم يتغير منذ تلك الأيام الغابرة حتى اليوم، رغم تبدل الحال وتحول النشاط الرئيسي لمدينة مرسى مطروح من التجارة إلى السياحة، بل تحول النشاط الأساسي في شارع التهريب من بيع البضائع المهربة، إلى بيع البندورة (الطماطم) والبطاطا والديوك والأرانب، إضافة لافتتاح محال هواتف محمولة ومكاتب خدمات قانونية وتجارية لا علاقة لها بالتهريب من قريب أو من بعيد.