صحة اللبنانيين في قبضة فولكلور طب الأعشاب

«اختصاصيون» قادرون على معالجة الحالات المستعصية

اعشاب طبية وتوابل من مختلف الأنواع («الشرق الأوسط»)
TT

10452 كيلومتراً مربعاً (مساحة لبنان) أصبحت المكان «التقليدي» لإحياء الفولكلور اليومي في طب الاعشاب. إذ لم يبق في «لبنان الأخضر» إلا بعض أعشابه الطبية المتنازع عليها بين «دكاترة الاعشاب»، ومَن منهم لم يوفَّق بعشبة لبنانية جاب بلاد العالم باحثاً عن عشبة غريبة وغير معروفة وبأسماء مألوفة وغير مألوفة، لتكون أساساً لمؤسسته الطبية التجارية التي يُطلق منها علاجه بالاعشاب. لقد أصبحت لهذه المؤسسات إمكانيات مادية ومعنوية هائلة أغرقت بفضلها الاسواق الاستهلاكية بالإعلانات التنافسية». بل أن إحدى هذه الشركات تدفع بدل إعلانات ما يقارب مليونا ونصف المليون دولار سنويا، كما قال وزير الصحة الدكتور محمد جواد خليفة، الذي أكد ان «وسائل الإعلام تتحمل مسؤولية الإعلان والتوعية معا»، بعدما لفتته الإعلانات الضخمة التي تسوّق لمنتجات يدّعي أصحابها العالمية ويزعمون أنهم بها قادرون على معالجة الحالات المستعصية والمزمنة، كما أنها تمنح المرأة العربية النحافة والرشاقة والشكل الجميل والصحة، وتمنح الرجل كل ما يرغب في الحصول عليه من القوة الجسدية والصحة، بالإضافة إلى علاجات أخرى لآلام المعدة ومشاكل القلب ومشاكل المفاصل. «والآن جديد: أول مشروب كاكاو .. مغذّ للأطفال يحرق الوحدات الحرارية»، كما ورد في إحدى صفحات الإنترنت الخاصة العائدة لإحدى المؤسسات، فتسترعي انتباه المستهلك ويمكن أن توقعه في هذا الفخ، وصدقاً كثر وقعوا.

من هنا كانت فكرة أن أذهب إلى بضع عيادات تعمل في هذا المجال، مدّعية أن أحد الأقرباء مصاب بمرض السكري، طالبة منهم إعطائي الدواء الشافي لهذه المعضلة. في «العيادة» الاولى وقع الالتباس، فقالت لي «البائعة الممرضة» إن الدواء سُحب من السوق لأسباب مجهولة، وبعد إصرار مني اتّصلت بالفرع الرئيس وتعجّبت لوجود «الدواء» فاشتكت من سوء التنسيق بين الإدارة والفرع. وعندما طلبت منها أن تعطيني هذا الدواء كانت الصدمة، إذ نصحتني بأن أبتعد عن هذه المستحضرات وبأن يبقى المريض على دوائه الكيميائي وليس الطبيعي. ولما حاولت الاستفسار عن السبب أكدت لي – بأمانة ـ أن لا بديل من الأدوية الكيميائية. وانتقلت إلى «عيادة» منافسة ومجاورة لا تبعد عن الأولى سوى أمتار قليلة. وهناك أيضا استقبلتني «بائعة ـ ممرضة»، رويت لها القصة ذاتها فوصفت لي علاجاً هو عبارة عن دواءين، وقالت لي بحزم «إن هذا العلاج يجب أن يستمر ستة أسابيع ليعطي مفعوله». استغربت هذه الثقة وانهلت عليها بالأسئلة، لكنها تعثرت، فأحالتني على «الطبيب» لأستوضح، علما أن الاستشارة مجانية.

في حضرة «الطبيب» اضطررت لأن أروي القصة ذاتها. وفي كلامه برز التناقض الواضح مع نصائح مساعدته. فبعدما أكّدت هي لي أن هذا العلاج الطبيعي يؤخذ بالتوازن مع العلاج الكيميائي شرح لي «الطبيب» أن هذا الدواء يمكن أن يكون البديل للعلاج الكيميائي. فأخبرته بما قالته مساعدته وعندها اضطر إلى «ترقيع» الاستشارة، وشرح لي مرة جديدة طبيعة العلاج مقسماً المرضى إلى فئتين: «الفئة الأولى، هم المرضى الذين لم تتعود أجسامهم على العلاج الكيميائي فيستعيضون عنه بالعلاج الطبيعي، والفئة الثانية المرضى الذين تعوّدت أجسامهم على العلاج الكيميائي فيأخذون العلاج الطبيعي في موازاة الأول».

وهكذا انتهت «الاستشارة الطبية». ولكن بينما كنت أهمّ بالخروج استوقفتني «الممرضة» لتعطيني قائمة بمنتجات «العيادة» ولائحة بأسعارها.. وكأنها قائمة أطباق في مطعم، وشدّدت على أن العيادة تقدم ـ كالمطاعم أيضاً ـ خدمة إيصال الطلبات إلى المنازل مجانياً. بعد بحث وتدقيق وجدت أن ليس كل هذه المؤسسات يحمل ترخيصاً من الدولة اللبنانية. فما هو موقف هذه الأخيرة، وبالأخص، وزارة الصحة من هذه الظاهرة التجارية؟ قبل أربعة أشهر صدر قرار لوزارة الصحة بتنظيم الإعلانات المتعلقة بالأعشاب الطبيعية: فمنع نشر الإعلانات في كل الوسائل الإعلامية المسموعة والمرئية والمكتوبة إلا بعد أخذ موافقة مسبقة من دائرة التثقيف والإرشاد الصحي في الوزارة. وكل مستحضر أو متمّم غذائي يراد الإعلان عنه يجب أن يكون مسجلا ومجازا من قبل وزارة الصحة العامة، كما يشترط في الإعلان أن يعلن بشكل واضح ـ ومتكرّر أثناء الإعلان ـ أن هذه المستحضرات ليست بأدوية ولا تقوم محل الدواء، وأن المرجع الصالح لتشخيص المرض ووصف الدواء هو الطبيب المختص، علماً أن المادة 393 من قانون العقوبات تنص على أن «من يزاول دون حق مهنة خاضعة لنظام قانوني عوقب بالحبس 6 أشهر على الاكثر وبغرامة من خمسين ألفا إلى 400 ألف ليرة». ولكن السؤال هل هذه المادة تطبق؟

الدكتور صالح دبيبو، نقيب الصيادلة، قال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد رفعنا مذكرة إلى وزارة الصحة وصدر القرار بهذا الخصوص. فهذه المستحضرات هي تضليل للناس، والتشخيص مغلوط .. فلا شيء يعالج إلا الدواء. ونحن كنقابة صيادلة لبنان نضعها في باب الشعوذة». وأكد دبيبو «أن لا قنوات اتصال بين هذه الشركات التجارية وبيننا». وأضاف أن لا رقابة على هذه الظاهرة، وحث وزارة الصحة على التشدد بهذا الخصوص. ثم أشار إلى أن هذه المؤسسات تنتج برامج تلفزيونية وتأتي بمقدّمين لهذه الأخيرة من فئات سياسية معينة للتأثير في فئة معينة من الناس. وختم كلامه «هذه المستحضرات ليست بأدوية بل هي متمّمات غذائية ونضعها في خانة الشعوذة».

وكان نقيب الأطباء البروفسور جورج أفتيموس قد أبدى رأي النقابة في الموضوع، بقوله إن «المسؤولية مشتركة بين النقابة ووزارة الصحة في رسم السياسة الصحية ومراقبة الأداء الطبي كي يأتي على المستوى المطلوب عملياً وتقنياً وأخلاقياً»، مشيراً إلى «انفلات إعلاني غير مسبوق في الآونة الأخيرة يتناول أمور الطب والصحة من دون ضوابط علمية وأخلاقية». ودعا إلى «رفع الصوت عالياً ضد: أولا منتحلي صفة الطب الذين يظهرون على شاشات التلفزة ووراء المذياع موزّعين الاستشارات الطبية الشكلية، وثانياً ضد المداواة بالأعشاب من دون الأخذ في الاعتبار بأبسط القواعد الصيدلانية، وثالثاً ضد الترويج لعلاج أمراض مستعصية كالسرطان بطرق لم تثبت علمياً، ورابعاً وأخيراً ضد بعض مقدمي البرامج لافتقارهم إلى الثقافة المطلوبة».

أما بالنسبة للمواطنين، فقالت ألين ن. عن تجربتها مع الأعشاب الخاصة بالبشرة من هذه المستحضرات، :«استعملت هذه المستحضرات ظنا مني إني سأتخلص من مشكلة حب الشباب في وجهي، ولكن عبثاً حاولت. طال العلاج وطالت آمالي بأن تزول هذه المشكلة لكن دون جدوى».

في النهاية يجب التساؤل: هل يتحمل وضع المواطن اللبناني تكبّد تكاليف إضافية في ظل هذه الضائقة الاقتصادية؟ وإلى متى سيقع المستهلك ضحية «بروباغندا» التسويق والإعلانات؟ كثيرون يرون أن على الدولة وضع خطة «طوارئ» للتنسيق مع النقابات المعنية، بغية ضبط الوضع خصوصاً أن المشكلة لم تعد لبنانية حصراً، بل أصبح لديها امتداد عربي. فهذه المنتجات المحلية تصدّر إلى الدول العربية بعدما امتلكت المؤسسات المعنية إمكانيات تسويقية ودعائية أتاحت لها التوسع خارج حدود لبنان، وهي في «تطور» مستمر.

وبين وزارة الصحة ونقابتي الأطباء والصيادلة والإعلام وبين هذه المؤسسات التي تتاجر بحياة المريض، من هو المسؤول الأول عن صحة الناس قبل موتهم؟