معارض ومطاعم في أقبية وحارات دمشق القديمة

تمتّع روادها بجماليات البيت الشامي التقليدي وتفاصيله المعمارية

مقهى في حي النوفرة بدمشق («الشرق الأوسط»)
TT

قبل حوالي عشر سنوات كانت حارات دمشق القديمة وبيوتها العتيقة تعيش بهدوء وسكينة، وتنتشر فيها محلات العطارة وبيع التسقية والفول ودكاكين الأنتيكا..

وفي الأقبية والغرف المتهالكة كانت هناك ورش يعمل فيها أصحاب مهن يدوية تراثية قديمة كالأرابيسك تزود أسواق الحميدية ومدحت باشا والصالحية بمنتجات من «البروكار» الدمشقي العريق والنحاسيات والخشبيات والعجمي والأراكيل والزجاجيات المزخرفة التي اشتهر بها قزازو دمشق منذ مئات السنين، ومعها غيرها من الحرف المتوارثة أباً عن جد، والتي تلقى رواجاً كبيراً ليس فقط عند أهل الدار، بل ايضاً من زوار دمشق وخاصة الغربيين منهم. مع أواخر القرن العشرين المنصرم وبداية الألفية الجديدة كانت هذه الحارات على موعد مع حدث جديد وكبير غير من سكون الحارات القديمة وهدوئها إلى الأبد. وبلا مقدمات، أخذ العديد من البيوت الدمشقية القديمة في حارات القيمرية والعمارة والأمين وباب شرقي والقشلة وباب توما وزقاق الصوف وغيرها من حارات «داخل السور» يتحول وبشكل متسارع وكثيف إلى مطاعم ومقاه وكافيتريات. كانت البداية مع شاب مغامر، هو حفيد «شاعر الشام» شفيق جبري، إذ وقف في منزل أجداده الكبير والواسع والمميز بزخارفه وعمارته الجميلة، والذي كان متهالكاً تركت عاديات الزمان عليه الكثير من الترهلات والانهدامات، وقرر ترميم المنزل على حساب العائلة وتحويله إلى مطعم. وهكذا صار «بيت جبري»، القريب من مكتب عنبر، أول بيت دمشقي خاص وغير مستملك من قبل الدولة السورية، يتحول إلى مطعم. وخلال أشهر قليلة لاقى بيت جبري إقبالا منقطع النظير من زوار دمشق وأهلها على الجلوس فيه وتناول الطعام الدمشقي بجوار بحراته وفي ليوانه الواسع الجميل.

ومع نجاح تجربة بيت جبري كرّت السبحة... وتهافت أصحاب الأموال على شراء البيوت الدمشقية القديمة من أصحابها، أو أقدم ورثة هذه البيوت ـ التي كانت منسية بسبب قدمها وهجرة ساكنيها لها منذ عشرات السنين ـ على ترميمها وتحويلها إلى كافيتريات ومطاعم. وهكذا برزت مؤسسات مثل: «عالبال» و«قصر النرجس» و«بيت جدي» و«بيت ستي» و«باب الحارة» و«تمر حنة» و«موليا» و«ألف ليلة وليلة» و«قصر العرسان» و«القيثارة» وغيرها من تسميات كثيرة، حرص أصحابها أن تأتي منسجمة مع رومانسية البيت الدمشقي القديم وشاعرية أقسامه وباحته الواسعة وشجيرات ياسمينه والنارنج والليمونة وفسقياته. وكان البعض أصحاب حس ثقافي وفني وتجاري في آن معاً، ففضلوا أن يخصّصوا أقساماً من البيوت لتكون صالات معارض فنية ومراسم وقاعات عزف موسيقي بالإضافة إلى المطعم والمقهى والكافيتريا. فصارت معارض الكثير من الفنانين تفتتح وتحتضنها دارة «عالبال» للفنون والقسم الفني في «بيت جبري» و«غاليري قزح» وغيرها.

ومن ثم كانت مجازفة النحات السوري مصطفى علي بأن اشترى منزلا دمشقيا واسعا في زقاق تل الحجارة، بحي الأمين (حارة اليهود) في «المدينة القديمة» قبل سنتين، وحوّله إلى مرسم ومعرض دائم لأعماله وصالة عرض لمعارض زملائه. ولقد راقت الفكرة لهؤلاء فقرّروا النسج على منواله، فتحولت بيوت تل الحجارة إلى مراسم، وبات يطلق على تلك الحارة القديمة لقب «حي الفنانين»، وليطلق ذلك فعلياً مع بداية العام الحالي 2008 الذي تزهو دمشق فيه باختيارها «عاصمة الثقافة العربية». ومع اشتداد التنافس بين أصحاب البيوت المطاعم والكافيتريات، التي وصل عددها ـ حسب إحصائيات شبه رسمية ـ إلى 300 بيت ـ مطعم وكافيتريا، استثمر البعض بيوتاً كلاسيكية قديمة، كبيرة الحجم والاتساع لتحويلها إلى فنادق مع المحافظة على شكلها التراثي مع بدايات عام 2005. وبالتالي، انتشرت الفنادق العديدة في قلب «المدينة القديمة» ليصل عددها حتى الآن إلى حوالي عشرة فنادق... والحبل على الجرار! ومما يذكر أن «المدينة القديمة» كانت تفتقر إلى الفنادق تماماً في القرن الماضي، بل كانت تنتشر فيها الخانات التي شكّلت حتى بدايات القرن العشرين «فنادق أيام زمان»، حيث ينام في غرف طابقها العلوي التجار القادمون إلى دمشق للتجارة وتُتبادل السلع في الطابق السفلي. ولكن مع انتشار بناء الفنادق الحديثة في دمشق ببدايات عام 1930 انحصر إنشاؤها في المركز التجاري خارج «المدينة القديمة» (المسوّرة). أما الآن فيتفنن أصحاب الفنادق داخل «المدينة القديمة» بترميمها وزخرفتها لجذب السياح والزوار، كما يحاول أصحاب المطاعم والكافيتريات أن يميّزوا أنفسهم بأشياء خاصة بهم. فمنهم من تخصص بتقديم مأكولات دمشقية عريقة ومنهم من يقدم الفولكلور الشعبي في مطعمه كـ«الحكواتي» و«العراضة الشامية» وغيرها. وكانت «عالبال» سباقة إلى جذب المثقفين والكتاب من خلال إصرار صاحبتها على أن تكون فيروز حاضرة طيلة اليوم فيها بأغانيها الجميلة وهدوء ألحانها حتى أن الاسم جاء شاعرياً ومن وحي أغاني فيروز؟! خضر الشيخ خضر (50 سنة)، مهندس يمتلك منزلا في دمشق القديمة بين حارتي العمارة والقيمرية، التقته «الشرق الأوسط» وقال عن ظاهرة تحويل هذه البيوت إلى مطاعم ومقاه وفنادق: «عندما ولدت وأخوتي في دمشق القديمة.. تعودنا منذ الطفولة على الهدوء في الأزقة الضيقة، حيث لم تكن هناك حركة واسعة من قبل الناس أو غرباء عن الحارة يأتون إليها باستثناء عمال كانوا يأتون إلى حارتنا ليعملوا في الورش الحرفية ويغادرون في المساء إلى بيوتاتهم في المناطق الأخرى. ولكن خلال السنوات العشر الأخيرة تغيّرت حارتنا كثيراً، فصارت فيها مطاعم وفنادق، وصرنا نشاهد الناس يأتون إلى حارتنا بالمئات، وهذه الحركة مستمرة من الصباح حتى ساعات متأخرة من الليل». ويتابع «.. صحيح تغيرت حياتنا إذ لم يعد هناك الهدوء الذي كنا نعيشه في طفولتنا.. لكن هذه الظاهرة جميلة.. إنها ظاهرة سياحية وثقافية رائعة. وأنا شخصياً أتناول مع أسرتي الغداء أو العشاء بشكل أسبوعي في هذه البيوت القديمة». زائر كان يبحث عن مطعم محدّد في حي القيمرية عرّفنا بنفسه، هو حسام دقّاق، صاحب محل تجاري في سوق الشعلان، وقال إنه يأتي إلى هذه المطاعم ليعيش «مفردات البيت الدمشقي القديم بأقسامه المعروفة الحرملك والسلاملك والخدملك» وللاستمتاع بشم رائحة زهر الياسمين ومشاهدة شجرة الكباد والنارنج، إذ لم تعد هذه المفردات موجودة في منزل أسرته الجديد في حي المهاجرين. وأردف أنه كان يسمع من أهله ووالده عن روعة البيت الدمشقي التقليدي الذي باعه والده وانتقل للسكن في منزل عصري حديث لأنه ما عاد بمقدور والدته الاعتناء بالبيت القديم وتنظيفه.. خاصةً أنه واسع ويتطلب جهداً كبيراً، ولذا قرر والداه بيعه، لكن حسام يتذكر الآن من خلال هذه المطاعم والكافيتريات بيت جده القديم ويحن إليه. من ناحية ثانية، يطرح كثير من الدمشقيين سؤالا مهماً هو: إلى متى ستكرّ سبّحة تحويل البيوت القديمة، وعددها عشرة آلاف عقار في دمشق القديمة إلى مطاعم وفنادق ومقاه من دون توقف، علماً أن وزارة الإدارة المحلية السورية أصدرت في شهر أغسطس (آب) الماضي المخطط التوجيهي لمدينة دمشق القديمة؟

المهندس أمجد الرزم، مدير «المدينة القديمة» في محافظة دمشق، أجاب خلال لقاء مع «الشرق الأوسط» على هذا السؤال، فقال: «بموجب هذا المخطّط جرى تقسيم المدينة القديمة إلى محاور تجارية وسياحية. وفي التعليمات الجديدة أن على من يريد الحصول على ترخيص مطعم أو فندق أن يكون على أحد المحاور المحدّدة ضمن المخطّط، وعليه أن يحصل مسبقاً على موافقة الجوار، وأن يقدّم شيئاً مميزاً لمنشآته.. فليس أي شخص يأتينا لترخيص مطعم سيضمن أن نقول له أهلا إذهب وحوّل البيت القديم إلى مطعم. لقد اكتفينا من المطاعم في دمشق القديمة (هناك 300 مطعم). وبالنسبة للفنادق اتفقنا مع وزارة السياحة في هذا الأمر، فهي تحدد لنا عدد الأسرّة ونحن نرخص للفندق بموجب ذلك ضمن المدينة القديمة. كما أننا نحن ان نرحب بأي نشاط آخر ضمن المحورين السياحي والتجاري إذا كان يتماشى مع نسيج المدينة المعماري والتراثي ولكن من دون أن يكون مطعماً أو كافيتريا. ولن نسمح بإخراج السكان من المدينة القديمة لتحويل بيوتهم إلى مطاعم، بل بالعكس، نحن نعمل حالياً على ترغيبهم بالبقاء ضمن المدينة القديمة ونشر المنشآت الخدماتية فيها وبالأخص تلك التي يحتاجها السكان كالبقالات والصيدليات. ثم أننا نعمل حالياً مع وكالة التعاون الألمانية GTZ لمنح سكان المدينة القديمة قروضاً ميسرة لترميم منازلهم والمحافظة عليها والمشروع وصل إلى مراحله الأخيرة وسيجري تنفيذه قريباً».