المنسوجات البلقانية.. صراع مع التكنولوجيا والغزو التجاري

نياز صابينيتسا: نمارس التجارة.. ونساهم في الحفاظ على التقاليد

التكنولوجيا تغزو صناعة المنسوجات العريقة في البلقان («الشرق الاوسط»)
TT

تصارع المنسوجات البلقانية من أجل البقاء، بعد أن تقلص الطلب عليها منذ عقود طويلة أمام زحف المنسوجات الوافدة، والغزو التجاري من الشرق والغرب حتى أضحت أدوات متحفية تراثية تعرض في المناسبات، والتظاهرات التي غالبا ما توصف بالثقافية. ورغم غياب هذه المنسوجات عن البيت البلقاني منذ عهد طويل، إلا أنها تلقى إقبالا في المعارض والتظاهرات، لتبجل كموروث لا كصناعات محلية قابلة للاستعمال. ومع تطور أشكال الديكور المنزلي في العصر الحديث وابتعاده عن الأشكال القديمة التي عرف بها البيت البلقاني لم تعد تفرش كامل أرضية المنزل بالسجاد والزرابي، وإنما يكتفى بقطعة محددة الطول والعرض، في قاعة الجلوس أو بهو المنزل، وغالبا ما تكون صناعية وليست يدوية كما كان الحال من قبل، وابتعد الجمهور عن السجاجيد المحلية والمستوردة مثل السجاد الفارسي والتي تشكو محلاتها من قلة الاقبال عليها، وإن كان الاقبال عليها أفضل من المنسوجات البلقانية المحلية.

وقد ابتكر البعض طرقا للابقاء على هذه الصناعة حية من خلال إقامة ورش لإعادة تصنيعها ومحاولة تسويقها كمنتج سياحي، واستخدامها كديكور للفرجة في الأحياء العتيقة داخل المدن التاريخية وذلك لشد انتباه الأجيال الصاعدة والسياح الأجانب إلى هذه المنتوجات المحلية.

ويلجأ البعض الى عرض المنسوجات والأدوات التراثية، التي يملكها أشخاص في التظاهرات الثقافية والتي أقيم آخرها منذ أيام، في سراييفو، حيث كان بعض ما تم عرضه يعود لعدة عقود وبعضها عمره 150 عاما مثل مجموعة دراغن تشايبيتش، ومجموعة محمود تشالابيتش، وهي كنوز تراثية لا تقدر بثمن. حتى أن البعض خلدها في صور ولوحات زيتية، إلى جانب الملابس المحلية القديمة.

ويقول أحد المهتمين بالتراث وبالمنسوجات البلقانية، الفنان أنس شهيتش لـ«الشرق الأوسط»: «المنسوجات البلقانية المحلية والتي تصنع يدويا، هي أفضل مرآة لماضينا، وهي ترسم إلى جانب الملابس القديمة لمختلف شعوب المنطقة تنوعا مثيرا وجذابا عبر ألوانها وأشكالها وطرق صناعتها الفنية المميزة». أما سميحة ستوباتس، 23 سنة، فقالت لـ«الشرق الأوسط» إن والدتها تجيد صناعة السجاد البوسني اليدوي الذي يطلق عليه باللغة المحلية «تشيليم» وهي اسم قريب جدا من اسم نفس المنتوج في منطقة المغرب العربي «كليم» والتحريف ناتج عن عجمة اللسان. أما هي فلا تفقه شيئا من ذلك، لأنه لم يعد جزءا من الحياة اليومية أو ما يجب أن تتعلمه الفتاة قبل انتقالها من بيت والدها، إلى منزل زوجها. ويشكو البعض من الباعة في المدن من قلة الاقبال على المنسوجات المحلية، سواء في شكل سجاد أو معاطف وسترات، وحتى جوارب وقبعات وطاقيات شتوية، بينما عبر البعض الآخر عن رضاهم على ما يجنونه من مكاسب مادية، بفعل نشاط الحركة السياحية، وعودة المهاجرين في الخارج إلى أوطانهم، حيث يقومون بشراء هدايا لجيرانهم وأصدقائهم كجزء من تراث وثقافة شعبهم.

وقالت عاملة في احد محلات بيع المنسوجات المحلية في سراييفو العتيقة تدعى نييرة لـ«الشرق الأوسط»، «ان الاقبال قليل والمبيعات بالكاد تغطي المصاريف وتكلفة البضاعة»، وذكرت بأن المتر المربع الواحد من «تشيليم» يعادل 12.5 يورو. وعن مصدر البضاعة أشارت إلى أنهم يشترونها من النساء العاملات في هذا المجال.

وعن أسعار المنسوجات البلقانية ذكرت صاحبة محل تدعى ربيعة أن «الأسعار تختلف من منتوج إلى آخر، فالمعطف يباع بحوالي 125 يوروا، والطاقية أو القبعة بـ12.5 يورو، والجوارب بـ10 يوروات»، وهي أسعار تعد مرتفعة جدا بالنسبة للمستهلك المحلي مما يجعل الباعة يراهنون على العمال بالخارج والسياح أو الأجانب المقيمون في منطقة البلقان. وقال صاحب محل لبيع المنسوجات البلقانية يدعى نياز صابينيتسا «لا نمارس فقط التجارة من خلال عرض هذه المنتوجات، وإنما نساهم بالحفاظ على التقاليد التي يهددها الانقراض، ونساعد الناس الذين لا يزالون يحتفظون بهذه الحرفة التراثية، فهم في الغالب من الفئآت الاجتماعية الضعيفة. واضاف صابينيتسا أن «جميع الذين يمارسن هذه الصنعة من كبيرات السن، فالجيل الجديد غير مهتم بالتراث، وإنما بالأعمال السهلة، فالفتيات لا يردن تعلم حرفة تأخذ منهن وقتا وجهدا مضنيا، وبالتالي يقبلن على ما هو سريع وصناعي وتكنولوجي، حتى وإن كان أقل جودة». ونفى نياز وجود مؤسسة حكومية تهتم بهذا التراث المعرض للإهمال وللانقراض، قائلا انه حتى وكالات السياحة لا تقدم شيئا للمساعدة من أجل منع هذه الحرفة من الاندثار.

وعن أسباب إقبال بعض الأجانب على شراء «التشليم» وغيرها من المنسوجات قال نياز إن «البعض يحتفظ بها للذكرى والبعض الآخر يعلقها على الحائط كلوحة، ولا سيما الاحجام الصغيرة وما فيها من زخرفة، وهناك من يشتريها ليهديها»، وأكد أن الكثير من المواطنين العاملين في الخارج يهدونها لأصدقائهم للتدليل على أن لبلادهم تاريخا وتراثا وليست مجموعة مهاجرين بدون جذور أصيلة».

ورغم التشابه الكبير بين المنسوجات البلقانية، ولا سيما بين البوسنة وصربيا، إلا أن كلا منهما لديها ما يميزها، فالمنسوجات البوسنية أكثر زخرفة، بينما في منطقة الهرسك يهتمون أكثر بالزهور في المنسوجات المختلفة حتى الجوارب. وقد حاول البعض من التجار مواكبة التطور في مجال المنسوجات، فأصبح يطلب من الحرفيات ألوانا أقل والاكتفاء بالابيض والاسود، وهو اللون الاكثر إقبالا حسب قول البعض. ويشتكي الباعة المحليون من غزو المنتوجات الفارسية والهندية والافغانية للاسواق المحلية. ويقدر أحدهم تأثير ذلك على مبيعاتهم بنسبة 80 في المائة وفق نياز صابينيتسا، مع فارق كبير وهو أن المحليين، والكلام لنياز، يدفعون ضرائب أكثر من غيرهم من الوافدين. من جهته قال الايراني برويز محمدي، وهو صاحب «بازار» للسجاد الفارسي إن «العمل صعب، وهي تجارة غير سهلة بسبب أن الناس (المحليين) ليس لديهم المال الكافي لشراء السجاد الفارسي، إضافة لمصاريف كثيرة كالنقل من ايران إلى البلقان، وايجار المحلات والضرائب». وتابع «الاستقرار هنا صعب ولا يوجد رأس مال، فأنا أصرف أموري بالقروض التي يجب اعادتها»، ونفى أن يكون السجاد الفارسي له تقاليد عريقة تعود لـ5 آلاف سنة، ولا ينافس السجاد المحلي، فالإيرانيون يعتبرونه سيمفونية الروح أو كتاب الروح.