بلحسن.. طبيب شعبي يعرض أطقم أسنان مستعملة للبيع

قضى نصف قرن في قلع الأسنان.. والسياح يأخذون صورا تذكارية معه ومع بضاعته

بلحسن، جالسا إلى كرسي «العيادة الطبية» في الهواء الطلق («الشرق الأوسط»)
TT

«جامع الفنا» هي ساحة عجيبة، فعلاً. كل ركن فيها عالمٌ فريد من نوعه ولحظة دهشة غامرة، ربما لا تتوفر في مكان آخر. هنا، يردد حكواتيون قصص «ألف ليلة وليلة» و»الأزلية» و»العنترية»، كما تقام «مباريات» في الملاكمة والغولف والبولينغ. فيما تزيد الأغاني الشعبية المكان انشراحاً وبهجة.

ولكن، العالم العجائبي للساحة لا يتوقف عند حدود مروضي الافاعي، وقارئات المستقبل، ودخان المشويات، بل يتجاوز كل ذلك إلى تقديم حالات فرجة، ربما، لن تفهم في مضمون عرضها شيئاً: فهذا مهرج يقدم فرجته عاري الصدر، منتعلا حذاءً رياضياً، وهؤلاء رجال يتقمصون شخصيات راقصات يتمايلن على أنغام موسيقى شعبية، تثير فضول واستهزاء المتفرجين. وعلى الجانب الأيمن من الساحة، في الطريق إلى سوق «السمارين»، على بعد خطوات من مقهى «فرنسا» الشهيرة، يجلسُ شيخ، عارضاً أدواته «الطبية» ومخلفات عمليات قام بها لانتزاع أسنان ممن صادف وأن اشتد عليهم ألم الأسنان ذات زيارة للساحة. ومع «طاولة» الشيخ «الطبيب»، لا يسعك إلا أن تقف مشدوها لغرابة الموقف وطرافته، وأنت تعاين منظر «العيادة الطبية»، التي تم نصبها في الهواء الطلق، حيث تتجاور على طاولتها أسنان رجال ونساء وأطفال وشيوخ من جنسيات ومناطق وتواريخ مختلفة، الشيء الذي يجعلك حائراً في طريقة تعريفها: أهي «عيادة» أم «متحف»، أم شيء آخر؟ ويقول الشيخ «الطبيب»، ابراهيم بلحسن آيت حمو، لـ«الشرق الأوسط»، إنه يقصد الساحة منذ منتصف عقد الخمسينيات من القرن الماضي، الشيء الذي جعله يراكم فيها سنوات طويلة من عمره. وهي سنوات، ربما تؤرخ، في جانب منها، لسياح زاروا الساحة الشهيرة فتركوا «أسنانهم» تذكاراً لدى الشيخ «الطبيب».

وفي الحقيقة، لا يتذكر بلحسن بالضبط تاريخ بداية عمله بالساحة، وقال: «عمري 67 سنة. جئت إلى الساحة في بداية عقد الستينيات من القرن الماضي. اشتغلت قبل ذلك، في الأسواق الشعبية. والدي كان فقيها. مارست حرفتي الحالية وأنا صغير السن في منطقة «مزوضة»، حوالي 70 كيلومترا من مدينة مراكش».

يتذكر بلحسن ذكرياته مع ماضي ساحة جامع الفنا بحنين لافت، فيقول: «من هنا، مر «باقشيش» و«الصاروخ» و«فقيه العيالات» و«ولد عيشة» و«عمر ميخي» و«إمداحن» و«عمر واهروش» وآخرون. كانت للفرجة أصولها. أين كل هؤلاء؟ كلهم رحلوا، ومع رحيلهم فقدت الساحة كثيرا من بريقها».

ظل بلحسن يقصد الساحة بشكل يومي، ويقول «وحده المرض كان يغيبني عن الساحة. هي مصدر رزقي. لكن تحولات الحياة جعلت الناس تعزف عن خدماتي، فضلا عن أني تقدمت في السن. وقد كان لزاماً علي أن أغير من طبيعة وجودي في الساحة، وأن أتأقلم مع المستجدات، حتى أضمن لنفسي ولعائلتي حداً أدنى من سبل العيش».

ومع الأيام، صار بلحسن يقاوم المرض وصعوبة الحياة بتعب واضح. وهو بالكاد يتكلم عبارات أجنبية، يركز فيها على مفردتي «فوطو (صورة)» و«أورو». يقول: «منذ حوالي ثلاث سنوات، صار حضوري، هنا، منحصراً في الفلكلور والفرجة، وليس لاقتلاع الأسنان أو بيع الطواقم المستعملة. الحياة صارت صعبة، والناس بالكاد تستطيع أن «تقتلع» منهم دراهم تساعدك في تدبر متطلبات الحياة».

وهكذا، وبعد سنوات من «اقتلاع» الألم من أفواه رواد الساحة، تحول بلحسن إلى «طبيب أسنان» تقليدي بمضمون استعراضي للفرجة، فلكلوري، حيث يتواطأ مع السياح الذين يجلسون إلى «كرسي عيادته»، متظاهرين، في مشهد هزلي، أنهم يزيلون سناً، قبل أن يتوج المشهد «المفبرك» بأخذ صورة تؤرخ لمرور من الساحة، وتفجر ضحكات من يطلع على حكاية تلك الصورة، هناك في بلدان الضباب، حيث لمهنة طب الأسنان ضوابطها وشروطها الصارمة. وغالباً ما ينتهي مشهد التصوير بنفح بن بلحسن بعض المال.

ويدافع بلحسن عن حقه في أخذ مقابل من السياح، الذين يأخذون صوراً بجانبه، ويقول: «أطلب من السياح الأجانب مالاً مقابل أخذ الصور. هذا حقي. فهم يضمنون لأنفسهم متعة الفرجة وأخذ صور معي. أنا لا أتسول، بل أقدم خدمة وفرجة. فأنا رب عائلة، يلزمني أن أضمن لها السكن والأكل والشرب والملبس».

وإلى طواقم الأسنان التي يعرضها للبيع، والأسنان التي تركها رواد سابقون، يعرض بلحسن مجموعة صور أخذت له مع سياح تركوا وجوههم ذكرى زيارة عابرة. وإلى جانب الصور يحتفظ بلحسن ببطاقة طبيب أسنان من إسبانيا، اقترح عليه ذات مرة أن يزوره هناك.

يعترف بلحسن بالفرق الشاسع الذي يميزه عن طبيب أسنان حقيقي تخرج من كليات الطب والصيدلة. وهو لا يذكر في حديثه إليك شيئاً عن علاج الأسنان وأمراض الأسنان واللثة، وإزالة التسوس، وحشو الفجوات بين الأسنان باستعمال الأجهزة المختلفة الخاصة بطب الأسنان، مثل المثقب ومرآة الفم وخرطوم المص، إلخ. كما لا يعرف شيئاً عن إعداد صور فك المريض بالأشعة، قبل وضع خطة العلاج.

لا يستطيع بلحسن أن يقاوم إغراء المجيء يومياً إلى الساحة لتقديم الفرجة، وكسب الرزق. ويقول «صارت الساحة جزءًا مني ومن ذكرياتي. قضيت فيها أغلب سنوات عمري، ومن رزقها كونت أسرة وضمنت مورداً للعيش. قد تتغير المدينة، وقد يتغير العالم، رأساً على عقب، لكن الساحة ستبقى متجذرة في تاريخ المدينة والناس. من الممكن أن يتغير شكلها، لكن روحها ستبقى حاضرة، تتذكر أسماء ووجوه من مروا منها».