خيول عربية أصيلة تقاوم .. في غابات البلقان

شردتها الحرب وجذب جمالها وقوتها عشاق الخيول من العائلات العريقة

خيول برية عادت إلى وضعها الطبيعي في إحدى مزارع سراييفو («الشرق الاوسط»)
TT

يمكن للمرء أن يشاهد عشرات الخيول في «جبال رومانيا» ـ وهذا الاسم تعرف به السلسلة الجبلية البلقانية التي لا علاقة لها بدولة رومانيا ـ وهي تركض بحرية أو ترعى في مجموعات متجانسة، كما يمكن مشاهدة الأمهار الصغيرة وهي تلاحق أمهاتها برشاقة فائقة.

إنها أجيال من الخيول كبرت وترعرعت في وسط الغابات الجبلية التي يقصدها البعض بغرض التمتع بمنظر هذه الخيول البرية التي تعد أجمل وأقوى من غيرها. ولقد استطاعت هذه الخيول التأقلم مع المحيط وحماية نفسها بفضل عيشها في مجموعات، فتغلبت بذلك على خطر الذئاب التي تتربص بها، وكذلك الدببة التي يئست من الإيقاع بها، فباتت تتجنبها، بل وتتجنب المناطق التي توجد فيها. قصة هذه الخيول تعود لسلسلة حروب البلقان، ومنها الحرب الأخيرة حين اضطر الكثير من الناس للتخلي عن مواشيهم سواء بسبب الاجتياحات العسكرية أو عجزهم عن إطعامها، ومنها الخيول التي غدت برية.. تتناسل وتتكاثر بعيداً عن رعاية الإنسان. وقد تمكن البعض من استعادة جزء من هذه الثروة، لا سيما أن بين الخيول أجيادا عربية أصيلة تمكنت من العيش في غابات الجبال. زارت «الشرق الأوسط» بعض حظائر الخيول «العائدة» وتحدثت مع من يهتم بأمورها. المحامي محمد بوتوغيا ـ وهو من عائلة عريقة ومن أكبر المحامين في سراييفو وكان عمه عالما كبيرا وحافظا للقرآن الكريم ـ يملك مزرعة لتربية الخيول وإعادة تأهيل الخيول البرية، وشرح لنا الوضع قائلا: «لدينا تقاليد عائلية عمرها 500 سنة وقد ورثت حب الخيل كابراً عن كابر». وعن أكثر أنواع الخيول انتشارا في منطقة البلقان، قال «خيول ليتساني الرمادية ويوريكا، بالإضافة للجواد العربي الأصيل الذي توجد منه أعداد قليلة مقارنة بغيره، ومن بينها خيول تعيش الآن في الغابات الجبلية ولا يملكها أحد، ولا يوجد قانون لحمايتها أو منع اصطيادها حية». وتابع «وجودها في الجبال قد يكون جيداً للسياحة ولكن الاستفادة العملية منها لتربيتها وتأهيلها بغرض استخدامها في حلبات السباق أو قفز الحواجز منعدمة.. لوجودها في الغابات». وعن سعر الحصان الواحد، أفاد بوتوغيا بأن ذلك يختلف حسب النوع وإمكانيات الحصان «ولذلك تتراوح الأسعار بين 3 آلاف و30 ألف يورو». ثم استدرك قائلا «من حيث المبدأ نحن لا نبيع الخيول وإنما نهديها لمن نحب ونعتقد أنه سيحافظ عليها ويكرمها». وعن الجواد العربي الأصيل، قال بوتوغيا «الجواد العربي الأصيل من أفضل الخيول في العالم وأكثرها ذكاءً ووفاءً، كما أنها من الخيول التي لها طاقة تحمل كبيرة وسرعة فائقة». وعن وجود الجواد العربي الأصيل في البلقان، ذكر أن «الجياد العربية الأصيلة جلبها إلى المنطقة العثمانيون ثم النمساويون». وأشار إلى أن لديه جوادا عربيا أصيلا كان أحد الحكام العرب قد أهداه للرئيس اليوغوسلافي الأسبق جوزيف بروز تيتو، واشتراه (أي بوتوغيا) بعد عرض ممتلكات تيتو للبيع وكذلك الممتلكات المشتركة للجمهوريات التي كانت تكون يوغوسلافيا السابقة. وأردف بوتوغيا أنه يود اقتناء 4 خيول أخرى أو جلبها من الغابات الجبلية إذا نجح في ذلك، مشيراً إلى صعوبة الإيقاع بها لسرعتها البالغة وانعدام الوسائل الناجعة كالشباك أو الإبر المخدرة التي تطلق من المروحيات. ثم قال إنه «توجد 10 أندية للخيول في البوسنة لوحدها. كما توجد أندية في كل من صربيا ومقدونيا وألبانيا وكرواتيا والمجر ورومانيا وبلغاريا، وبالطبع، تركيا التي يوجد فيها من يعتني بالخيول، كما يوجد تجمع لمربي الخيول في المنطقة».

وعن الأماكن البوسنية التي توجد هذه الأندية، ذكر بوتوغيا كلا من بيهاتش وبوسانسكي موست وسراييفو، وبيالينا وتشابلينا. أما عن دوافع شغف البعض بالخيول، فأوضح أن هذا يعود بالدرجة الأولى للحب الذي يكنه البعض للخيول وذلك له علاقة بالتقاليد. وتابع «يمكن أن يغني الحب عن التقاليد ولكن لا يمكن أن تغني التقاليد عن الحب.. ولكن اجتماع الحب والتقاليد مطلوب في هذا المضمار». ثم شدد على أن تقاليد العناية بالخيول وتربيتها والعمل على استرداد ما بقي منها في الجبال ستبقى حية، وذلك في رده على سؤال بهذا الخصوص. وأضاف «ابناي طارق وأمير من عشاق الخيول.. وهذا ما يجعلني مطمئنا إلى تقاليدنا في هذا الخصوص. الخيل ملهمة للإنسان وتجلب الراحة.. عندما يكون عليّ ضغط في المكتب أعود إلى المزرعة لاستعيد قواي». أما الدبلوماسي أدهم باشيتش، رئيس دائرة دول عدم الانحياز في وزارة الخارجية البوسنية ـ وهو أيضاً من المهتمين بالخيول، ويتحدر من منطقة فوينيتسا السياحية ـ فقال لـ«الشرق الأوسط» بفرح وحماسة «في كل سنة نشارك في احتفالات أيفاتوفيتسا ويكون للخيول حضور مميز لمحاكاة قصة وقعت في شمال غربي البوسنة، حيث اشتكى أهل القرية من القحط وانعدام الماء، وكان هناك رجل زاهد ظل يصلي عند الجبل 40 يوما حتى انفلق الجبل وتفجر منه الماء... هذه القصة حقيقية ولم يمر عليها أكثر من 200 سنة. ومنذ ذلك الحين والناس يحتفلون بالذكرى في مهرجان عظيم وتشارك أندية الخيول في هذه المناسبة التاريخية، وتذبح فيها الذبائح ويصلي الناس جماعةً قرب المكان لمدة ثلاثة أيام». وذكر بأن للبوسنة ما يعرف بـ«الحصان البوسني»، وهو حصان قصير القامة نسبياً لكنه قوي، ويمكن القول إنه فعال في الجبال. ولذلك يطلق عليه البعض تسمية «الحصان الجبلي».. وقد أدى دوراً مهماً أثناء الحرب فاستخدم في نقل بعض المعدات والأسلحة للجبهات التي يتعذر الدخول إليها بالسيارات أو المجنزرات». ويستخدم «الحصان البوسني» في جر العربات والحرث في بعض المناطق الريفية حيث يتعذر استخدام الجرارات والآت الزراعية الحديثة. ويقدّر محبو الخيول من غير المسلمين في البلقان موقف الثقافة الاسلامية من الخيول، حيث لا يقتل الحصان إذا كبر، ولا يذبح ولا يؤكل لحمه كما يفعل غير المسلمين. ولذلك يروي دراغليوب رانكوفيتش لـ«الشرق الأوسط» أن محبي الخيول من الصرب وغيرهم إذا اضطروا لبيع خيولهم التي يعشقون فإنهم يفضلون بيعها للمسلمين. وأضاف «هناك مقولة منتشرة في منطقة البلقان بين محبي الخيول هي إذا اضطررت لبيع حصانك فبعه لمسلم فهو أفضل إنسان يعرف قيمته ويعرف كيف يكرمه، فلا يقتله ولا يذبحه ولا يأكل لحمه». وعن قصة الخيول البرية، ذكر رانكوفيتش أنها موجودة أيضا في جبال باطوفي بولي، وهي احد إفرازات الحروب البلقانية لكنها تعيش وتتوالد.

وعن حال الخيول البرية أثناء هطول الثلوج، أفاد بأنه عثر على أماكن شاسعة طهرتها الخيول من الثلوج يصل عمق بعضها إلى متر ونصف المتر». وعن الذئاب والدببة، قال «إنها (أي الخيول) أقوى من الذئاب والدببة.. وهذا ما أكدته التجربة، فهي هناك صامدة منذ عشرات السنين». لكنه كشف عن وجود مجرمين يقتلون الخيول أحياناً برصاص أسلحة مخلفات الحرب لبيع لحمها أو إطعامها للكلاب مضيفاً «لذا فهي بحاجة لحماية دولية تجعل المناطق التي توجد فيها محميات دولية».