بأنامله التي بدت كأنامل صائغي الذهب، حول محسن سيد قطعة صغيرة من الخشب لم يتجاوز طولها 10 سنتيمترات إلى تحفة فريدة، لمعت عيناه كطفل يمارس لعبته المحبوبة بمهارة أمام صيحات الإشادة.
أصر محسن على إهدائي نتاج مهاراته لتكون «ذكرى للزمن»، بقيت لمعة عينيه وإن زالت ابتسامته تدريجيا وهو يحكي عن حال حرفته كصانع للأرابيسك.
يقول محسن: «أسكن منطقة «عين الصيرة» القريبة من الفسطاط الشهيرة بالحرف التراثية. عشقت الأرابيسك، وجدته فنا أكثر منه مهنة، تعلمته في بولاق الدكرور (غرب القاهرة) لثلاث سنوات. كنت أقطع الساعات لأتعلم، ثم عملت لسنوات بمدينة 6 أكتوبر، وساعدني مهندس أعجبته منتجاتي في الالتحاق بمركز الحرف التقليدية بالفسطاط بمرتب شهري أتقاضاه من وزارة الثقافة المصرية».
محسن واحد من بين 120 حرفيا وفنانا يحيون تراث الأجداد الذي كاد يندثر بفعل عوامل عديدة اجتمعت لتعجل بانقراض مهن وفنون مصرية خالصة، كالزجاج المعشق، والنجارة العربية والأرابيسك وصنع الخيام والحلي التقليدية.
اجتمع محسن ورفاقه من الفنانين والحرفيين بالقرب من أسوار مدينة الفسطاط القديمة التي بناها عمرو بن العاص في المنطقة الشاسعة بين النيل وتلال المقطم، على بعد أمتار من أطلال منازل القادة المسلمين الذين فتحوا مصر، هناك بنى جمال عامر وهو أحد تلاميذ حسن فتحي مهندس الفقراء الشهير في مصر والعالم مقرا شهد عمليات إعادة الحياة لتراث مصر. تمتد فكرته إلى عام 1958 عندما بنى سعيد الصدر شيخ الخزافين المصريين «أتيليه» صغيرا كان مخططا له أن يكون مركزا لفن الخزف بجوار منطقة «الفخرانية» بمصر القديمة، واحتوى على فرن قديم لحرق الخزف، وظل يؤدي مهمته بنجاح رغم إمكاناته البسيطة إلى أن جاءت لحظة إعادة الحياة عام 1995 عندما قررت وزارة الثقافة المصرية تطويره، فبني المبنى من جديد على مساحة 2400 مترا وتوسع ليشمل الأنشطة الأخرى بجوار الخزف، ثم افتتح رسميا عام 2001. قديما كانت القاهرة تغص بورش الحرف، وكما يقول محسن: «احنا مش لعيبة كورة عشان ناخد حقنا، زمايلي شباب زي الفل حولوا ورش تطعيم الصدف والنحاس والزجاج الملون إلى محلات للفيديو جيم وبعضهم اضطر للعمل في محلات البقالة من أجل الصرف على أسرته، فالمجتمع لا يعترف بالفن أو التراث».
وبحسب محسن فإن المركز انتشله من الضياع مثل رفاقه، إذ يوفر له الخامات ويسافر إلى معارض خارجية لعرض إنتاجه، فها هو عائد من رحلة إلى ليتوانيا عرض فيها إنتاجه لمدة 9 أيام مع زملائه، كما أتاح له استعراض موهبته ويكفي أنه اشترك في بناء مسجد صلاح الدين التاريخي في القدس ـ بعد احتراقه على أيدي متطرفين يهود ـ ضمن ممثلين لـ22 دولة، ونال اعترافا دوليا بفنه، كما أصبح من خلاله اسما معروفا لدي نجوم المجتمع.
تقوم فلسفة مركز الفسطاط للفنون التقليدية بحسب مديره الفنان عبد الحكيم سيد على إعادة صياغة لمهن التراث للتعلم بشكل سليم، ولذلك يعتمد صقل الموهبة على ثلاثة أجيال من المدربين «شيوخ المهنة، وجيل الوسط والصغار» مع الاستفادة من إنجازات العلم والتكنولوجيا، والاحتكاك بتجارب الآخرين، ودلل على ذلك ببروتوكول التعاون مع مدرسة «الأمير تشارلز» ببريطانيا التي نظمت ورشة عمل للمتدربين لتعليمهم أصول الهندسة التقليدية، كما يعد المركز بيتا للخبرة يستفيد من خدماته كل فناني المنطقة الشهيرة بصناعتها التراثية كالخزف مثلا.
يقول عبد الحكيم: «دور المركز تنويري في الأساس، بالإضافة إلى كونه حاضنا للمهن الفريدة، يقدم دورات تدريبية بشكل مستمر، كما يستضيف كبار الفنانين والموسيقيين لتقديم فنونهم».
يضم المركز بين طياته ورشاً لأنشطة عديدة لفن النجارة التي تضم بدورها التطعيم بالصدف والأرابيسك، ثم الزجاج المعشق بالجبس والحلي، والخيامية، والنحاس بالإضافة إلى الخزف، ولكن أبرز منتجاته ما يكون نتاجا لتعاون هؤلاء جميعا».
تشكل الحرف التي يحتضنها مركز الفسطاط انصهارا لخبرات عديدة تراكمت بمرور السنين وتوالي الحضارات على مصر المحروسة. فإذا كانت الخيامية والحلي تعود أصولهما لعصر الفراعنة، فالزجاج المعشق والنجارة العربي عربية الأصل، ووجدت كل منها في القاهرة بيئة صالحة لازدهارها وثرائها. يقول حسن الجارحي وهو حرفي متخصص في النقش على النحاس «تعلمت مهنتي منذ 15 عاما، وخلال تلك المدة مررت بمراحل كثيرة بدأت أولا بالتشطيب بعد «الأسطى» حتى وصلت لمرحلة التصميم والرسم. وبعد أن أصبحت حرفيا ماهرا تلقيت عروضا للاستقرار في إيطاليا بأجر مغر، هناك يقدرون عملي جدا، والأوربيون يملكون من الوعي ما يجعلهم يقيمون المنتجات اليدوية بدقة، ولكنني مثل السمك لا أستطيع الخروج من الماء».
وعلى مدى قرون كان لمصر شهرة هائلة في تلك الحرف التي أصبحت تراثية الآن، وبلغت شهرتها إلى الحد الذي جعل سليم الأول، سلطان الدولة العثمانية، يجمع كل البنائيين والحرفيين المهرة من شوارع القاهرة بعد فتحها عام 1817 ويرحلهم الى اسطنبول لتشييد عاصمة الدولة الجديدة. وطالت المهمة ولم يعد أي منهم حتى لكي يدفن بين أهله. ودخلت تلك الحرف طور الضمور والموت، وربما لم يكن بين أولئك المرحلين من يجرؤ على التصريح بعبارة الجارحي الذي ختم بها حديثه معي «أروح فين يا بيه، أنا قاعد في البلد ده حتى لما أموت ألاقي اللي يصلي عليا»!