مصر: العنف بين العائلات يتجاوز أعراف الثأر إلى البلطجة

تغذيه الضغوط الاقتصادية وشعار «خذ حقك بيدك»

لوقف عملية الثأر درج بعض الاشخاص على حمل اكفانهم والذهاب بها إلى أصحاب الحق (أ.ب)
TT

جريمة ثأر، لا ناقة له فيها ولا جمل دفعته إلى أن يعيش مرغما في القاهرة خائفا مذعورا، وتحت وطأة الخوف والسنين تحول «علاء» إلى ضحية مسكوناً بشبح الموت يطارده حتى في أنفاسه. قصته بكل تراكماتها قصة تقليدية يعيشها صعيد مصر الذي تتحكم فيه قوانين الثأر..العين بالعين والسن بالسن والبادئ أظلم. فمنذ سنوات حدث أن قتل أحد الرجال من عائلة علاء رجلا آخر من عائلة منافسة في إحدى قرى أسيوط في صراع على أسبقية ري الأرض الزراعية، وكانت النتيجة طبقا للمتوالية الهندسية الدموية هناك أن يموت رجلا في المقابل من عائلة علاء الذي كان وقتها يدرس في جامعة القاهرة.

رن هاتفه في إحدى الليالي الشتوية، قالت له أمه في إيجاز «لا ترجع، فالموت في انتظارك». من يومها لم يغادر علاء القاهرة إلى قريته، مكتفيا بالزواج من إحدى قريباته التي تعيش في القاهرة والعمل في إحدى الهيئات الحكومية، لكن يظل الخوف حتى اللحظة سيد الموقف، من لحظة خروجه من منزله حتى ولوجه المذعور إلى بيته ليلا. وقبل أن يبتلعه الظلام في شارع جانبي بالقرب من ميدان العتبة وسط القاهرة تمتم منزعجا «هذا الثأر كابوس يطاردني ليل نهار..لم أتخيل يوما أنني سأكون ضحية له..أنا وزوجتي وطفلتي الرضيعة ننتقل من مكان لآخر طوال الوقت هربا من الموت، أتمنى إنهاء هذه الخصومة حتى أربي هذه الطفلة في أمان وأعود إلى قريتي..أتمنى».

حوادث الثأر التي تظل موروثا صعيديا بامتياز آخذة في الازدياد هذه الأيام، ولم تكتف على ما يبدو بالصعيد وقراه البعيدة، وإنما تعدته لتصل إلى القاهرة بفعل الهجرات المتتالية والهروب المستمر من قرى ومدن الصعيد التي تعاني إهمالا خدماتيا كبيرا إلى مناطق الظل في القاهرة حيث الحزام العشوائي الواسع، وعلى نفس القطار الذي حمل هذه العائلات الصعيدية إلى القاهرة جاء معهم الثأر أيضا.

لكن يبدو أن قوانين الثأر (الأخلاقية) التي حافظت عليها العائلات الصعيدية الكبيرة آخذة في الانهيار لصالح العنف والبلطجة التي ميزت الحوادث الكثيرة التي اندلعت أخيرا بين عائلات صعيدية سواء في الصعيد أو في القاهرة.

في صبيحة يوم العيد اندلعت معركة بين عائلتي «الطراخنة» و«الحمادنة» في مدينة الأقصر أدت إلى مقتل شخصين واصابة ثلاثة من عائلة واحدة، وبعدها بأيام، اندلعت معركة بالأسلحة النارية في أحد شوارع حلون (25 كيلومترا جنوب القاهرة) بين عائلة «الشراقوة» وعائلة «العطافوه» استمرت لمدة ساعة كاملة، انتهت بمصرع شاب وطفلة وإصابة أربعة أشخاص، وفي كلتاهما كان الثأر هو المحرض الرئيسي.

اللافت الآن أن الثأر بات مطلبا لكثير من العائلات في أي قضية قتل، ولم يعد حكرا على «الصعايدة» فقط. فكثيرا ما تحدث عملية القتل، التي تكون غالبا عشوائية وعنيفة وتعكس صراع مصالح أو خلافات جيرة أو مشاجرة بسبب لعب الأطفال ويتدخل الأمن ويقبض على القاتل لينال جزاؤه، إلا أن عائلة القتيل تعلن على الفور رفضها تلقي العزاء وهو ما يعني آليا البدء في إجراءات الأخذ بالثأر ولو بعد حين، فالمثل الصعيدي يقول «أخذ ثأره بعد أربعين عاما.. قالوا له لقد تعجلت!».

ترى د.عزة كُريّم أستاذ الاجتماع في مركز البحوث الاجتماعية والجنائية، أن المؤشرات تؤكد زيادة معدل جرائم الثأر، وغير الثأر في الآونة الأخيرة، لكن كُريِّم تفرق بين الثأر بقوانينه الأخلاقية التي تقوم على مبدأ العين بالعين، وتحرم قتل المسن والمرأة والطفل حتى يكبر، وبين عشوائية القتل للحصول على مصالح ما مثلما يحدث الآن. تقول كُريِّم أن ذلك يعود إلى إحساس الناس بغياب العدالة والأمن، حيث بات قطاع عريض منهم يرفع شعار «خذ حقك بيدك»، وأحيانا لا يكون حقا في واقع الأمر وإنما تعدي على حق الغير، وسط حقد طبقي ينمو ويتوغل في ثنايا المجتمع. وترى كُريِّم أن دور الدولة في مواجهة الأمر لا يسير على ما يرام، سواء كان عرفيا أو رسميا أو شرفيا، بل أنها لا تسعي لتفكيك البنية القبلية أو تدعيمها، بل تبحث فقط عن تحالفات مع ذوي النفوذ السياسي وأصحاب المال. وتبين كُريّم أن الحل موجود في إصلاح المنظومة الاجتماعية والعمل على القضاء على البطالة والفقر والإحباطات، وهذا بالأساس عمل الحكومة.

في المقابل يرى حساني عثماني أمين حزب التجمع في محافظة قنا (600 كيلومتر جنوب القاهرة) أن ازدياد حوادث الثأر في السنوات الأخيرة حادث بفعل العادات والتقاليد الراسخة في الصعيد، معترفا أن القانون الأخلاقي للثأر ينهار بفعل الضغوط المختلفة لصالح البلطجة عبر استئجار القتلة، والقتل العشوائي أخذاً بالثأر مضيفاً أنه «لا توجد قرية في قنا دون خصومة ثأرية..لكن الحل الأمني العرفي نشيط ولا يزال يقاوم التاريخ القديم للثأر، والمسألة برمتها متشابكة ومعقدة ولا تسمح بالتبسيط الذي يبديه البعض».

الدراما المصرية من جانبها تعاملت مع الثأر وقوانينه القاسية كثيرا، كان أبرزها في السنوات الأخيرة فيلم «عسكر في المعسكر» للممثل محمد هنيدي، غير أن الفيلم لم ينجح على ما يبدو في لفت انتباه الصعايدة لخطورة الثأر، مثلما لم ينجح في رفع شعبية هنيدي في صراعه على شباك التذاكر. الصعايدة يقابلون حواديتهم في الدراما المصرية بالسخرية من نطق الممثلين للهجتهم المميزة، فضلا عن غضبهم من إظهارهم على نحو سلبي، بل ويرصدون أحيانا مكافآت لقتل المؤلفين والممثلين الذين يعبثون بالتقاليد الصعيدية على حد قولهم. من ناحيتها تحمل د. كُريّم بعض الأعمال الدرامية مسؤولية تفشي العنف في المجتمع بطرق غير مباشرة عبر تشجيعها لارتكاب الجرائم والعنف واستخدام القوة في سبيل الحصول على المصلحة.

الباحثة وردة محفوظ جاءت من قريتها في محافظة سوهاج إلى القاهرة كي تعد رسالة ماجستير عن (الأبعاد الثقافية والاجتماعية لحوادث الثأر في الصعيد)، وجعلت من قريتها وحكايات الثأر فيها مجالاً للدراسة الميدانية، وردة عاشت طفولتها على وقع أصداء الثأر، معتبرة أن حوادثه تعود للبعد الاقتصادي الضاغط على الصعايدة وانتشار السلاح بكثافة هناك. ترى وردة أن الوجود الأمني المكثف للقضاء على الجماعات الأصولية فترة التسعينات ساهم في احتواء الثأر والحد من شيوع السلاح، وترصد في ثنايا بحثها طلب فئات اجتماعية تنتمي للطبقة الوسطى لثأرها قائلة إن «الثأر ليس مقصورا على الفقراء أو غير المتعلمين، بل يتعداه إلى حملة الشهادات العليا، وخاصة عندما يتعلق بالعائلات الكبيرة التي تسعى طوال الوقت إلى النفوذ والسطوة، إذ من العيب عندئذ أن تتنازل هذه الأسرة عن ثأرها خوفا على سمعتها وحفاظا على نفوذها».

المدهش أن المرأة رغم أنها لا تمثل مركزا هاما في قانون الثأر، إذ يمنع قتلها أخذا بالثأر، إلا أنها تلعب دورا مركزيا في التحريض عليه. يقول الشاعر الصعيدي عبد الرحمن الابنودي أن البعض يتصور أن الرجال في الصعيد يلعبون دورا في تعليم أولادهم لغة الثأر..لكن الحقيقة غير ذلك، فالابن عادة لا يكون في حاجة لأن يتعلم من أبيه الثأر، إذ أن الأجواء التي ينمو فيها هذا الابن تتردد فيها بصفة دائمة أصداء الثأر، والمناخ في هذه المنطقة ملبد بكلمة «التار»، والأب لا وقت لديه لأن يجلس مع الصغار ليغذيهم بمفهوم الثأر، وبالتالي تصبح هذه المهمة ملقاة على عاتق الأم».

طقوس الثأر في الصعيد تبدأ منذ لحظة وفاة القتيل الأول، إذ يتم الإعلان على الفور عن عدم قبول العزاء، ثم يتم الدفن في صمت، ويسير أفراد العائلة في جماعات، ويترك الشباب لحاهم، كما يخلع بعض رجال العائلة العمائم البيضاء مستبدلين إياها بأخرى سوداء للدلالة على طلب الثأر.

أحد المشاهد الأثيرة في المخيلة الصعيدية على غرار مشاهد قصة أبو زيد الهلالي الشهيرة، هو مشهد (القودة) الذي تسعى سلطات الأمن لدعمه عبر عقد لقاءات مصالحة عرفية بين العائلات الكبيرة من وقت لآخر لإنهاء الخصومات التي تمتلئ بها قرى الصعيد ومدنه، في وقت زادت فيه هذه الخصومات خاصة في مواسم الحصاد حيث يتم بيع المحاصيل وشراء الأسلحة للأخذ بالثأر، حيث لا يخلو بيت تقريبا في الصعيد من قطعة سلاح، فامتلاك الصعيدي للسلاح مسألة غريزية يترسخ عبرها إحساسه بأن هذا السلاح مصدرا لهيبته ومقياسا للقوة بين أقرانه.

في «القودة» يحمل المطلوب للثأر كفنا أبيض ويذهب به إلى أولياء دم القتيل يجود بنفسه طالبا الصفح في سرادق ضخم يجمع العائلتين، وبعد العفو يدون عقد يحمل شروط جزائية مالية على من يعود إلى الثأر مرة أخرى. محاولة حثيثة تقوم بها جهات عديدة لإيقاف نزيف الدم، وانهيار أعراف وقيم كانت تميز الصعيد في الماضي بدأت تتلاشى تحت وطأة الضغوط المختلفة.

أما علاء، الهائم في شوارع القاهرة هربا من الموت بطلقة في الظلام، فلا يزال يحلم بالعودة يوما إلى قريته حاملا كفنه الأبيض، من يدري.. ربما توهب له الحياة من جديد.