الإسكافي.. صنعة مهددة بالانقراض في البلقان

الحاج عدنان صالحوفيتش لـ «الشرق الأوسط»: التهديد يأتي من عزوف أبنائنا عن وراثتها

الحاج عدنان داخل متجره، وهو يصلح بعض الأحذية («الشرق الاوسط»)
TT

يبدأ الحاج عدنان صالحوفيتش عمله يومياً في ورشته، مباشرة بعد صلاة الفجر وشرب قهوة الصباح مع زملائه في مقهى السوق. ومن ثَم يتحول إلى إصلاح الأحذية، أو ـ كما يقول ـ صناعة ما اتفق عليه مع زبائنه الدائمين. الحاج عدنان، 47 سنة، يتحسّر على زمن كانت فيه شوارع مدينته وأحيائها تحمل أسماء دكاكين الحرف المنتشرة فيها. فهناك شارع الجلوديين (صانعو الجلد) وشارع الحدّادين، وشارع النسّاجين، وشارع الفخار، وشارع السروجية أو السرّاجين (صانعو سروج الخيل) وشارع الورّاقين.. وغيرها. أما اليوم فتحمل هذه الشوارع أسماءً أخرى بعد تقلّص هذه الصناعات التقليدية المحلّية بشكل غدا يهدّد وجودها ويعرضها للاندثار والانقراض. الحاج عدنان قال في حوار مع «الشرق الاوسط» إنه ورث صنعة الإسكافي عن والده «وهو تقليد تتوارثه العائلة منذ عام 1882.. ولم تكن في المنطقة يومذاك مصانع للأحذية، بل ورش أو مشاغل، ومحلات صغيرة يقوم عليها أهل الصنعة». وعما إذا كان هناك اختلاف بين ما كانت عليه صناعة الأحذية يدوياً والوضع الحالي، ذكر الحاج عدنان أنه يعمل في هذا المجال منذ كان عمره 12 سنة «والوضع الآن أفضل من حيث تسهيل التكنولوجيا بعض الأعمال اليدوية التي كانت تستغرق وقتا أطول في الماضي، ولكن الترويج والبيع يتقلّصان»، ثم استدرك قائلاً «في السابق كانت الأسعار أفضل بالنسبة للزبائن، لذلك كان هناك إقبال.. ولكن الأسعار الآن مرتفعة مما جعل الطلب يقل على الأحذية المصنعة يدوياً وحسب الطلب». ثم اشتكى من المصنوعات الصينية التي تغزو أسواق العالم، بما في ذلك أسواق منطقة البلقان، فقال «أسعارنا تتراوح بين 75 و100 يورو للحذاء، بينما تتراوح أسعار الاحذية الصينية بين 10 و20 يوروا. ثم ان ارتفاع أسعار المواد الأولية فاقم من الوضع كثيراً. وإذا نظرنا إلى الاوضاع الاقتصادية الصعبة، والأزمة التي تلف العالم، ندرك أسباب العزوف عن الأحذية المصنوعة يدوياً». وعما إذا كان انقراض صناعة الأحذية اليدوية بات وشيكاً، قال الحاج عدنان «هناك زبائن دائمون منهم مثلاً أشخاص لا يستطيعون انتعال الأحذية المفصلة في المصانع، إما لأسباب صحية أو بسبب عاهة كأن تكون إحدى القدمين أكبر من الأخرى، إلخ.. ولكن التهديد الجدّي يأتي من عزوف أبنائنا عن التفكير في وراثة هذه الصنعة، ورغبتهم في التخصص في مجالات أخرى». وتابع «كثيرون من الإسكافية هنا أغلقوا محلاتهم، وآخرون غيّروا صنعتهم وامتهنوا صنعات قريبة منها، كصناعة الحقائب النسائية وغيرها، وثمة مَن أجّر محله لآخرين، وخاصة تجار الذهب والفضة الذين انتشرت محلاتها، كما ترى، في شارع كان كله يحتله الإسكافية». ونفى الحاج عدنان أن يكون هناك أي اهتمام من قبل المؤسّسات الحكومية البوسنية بصناعة الأحذية يدوياً أو مهنة الاسكافي في حين توجد مدارس مهنية جديدة لتعليم صناعة النحاس، وصياغة الذهب والفضة. وعما إذا كانت هناك إمكانية لاستحداث مدرسة لصنعة الإسكافي والاحذية المصنوعة يدوياً، كما هو الحال في ايطاليا ودول أخرى، قال «المشكلة أن الذي لا يملك ورشة لصنعة الإسكافي أو محلاً لصنع الأحذية لا مستقبل له، كما لا توجد سوق كبيرة تستدعي إعداد أجيال جديدة من الصناعيين». وتابع ليشكو من قلة الاهتمام الإعلامي بالصنعة المعرضة للانقراض وهو ما ساهم في غربتها وسط موطنها الأصلي، قائلاً «لو كان هناك اهتمام إعلامي، لكان الترويج أفضل. فهناك من يرغب في الجودة بقطع النظر عن السعر لكنه لا يعلم بوجود أماكن حرفية عالية المستوى وجيدة الخبرة.. وعدد الزبائن التقليديين الذين يعرفون لا يكفي للترويج التجاري». في المقابل أعرب كثيرون من أصحاب محلات بيع الأحذية الايطالية عن رضاهم، بما يجنونه من أرباح من ممارسة هذه التجارة، وقالت عاملة في شركة «أسترا» للأحذية اسمها إيدينا أن «هناك رضى بشكل عام على مستوى المبيعات، رغم وجود منافسة من قبل الصناعات المحلية والصينية»، وأردفت «كل صناعة لها زبائنها، فهناك من يرغب في الصناعات المحلية الميكانيكية، وهناك من يفضّل الصناعات المحلية اليدوية، وبالطبع هناك فئة الراغبين في المنتوجات الصينية، وكل ذلك له علاقة بالذوق وبالقدرة الشرائية». والتقت «الشرق الأوسط» ببعض الشباب في عدد من محلات بيع الأحذية وقال نرمين هارماش، 16 سنة، إنه يفضل شراء أحذيته من محلات «فينيك»، لأنها «تتمتع بجودة عالية» حسب قوله. أما معمر سانكوفيتش، 18 سنة، فيفضل الصناعات المحلية «لأنها رخيصة السعر، ولأن شراءها يدعم الصناعات المحلية وينمّي الاقتصاد المحلي».

وعما إذا كان ما يظنه صناعات محلية مستوردة ـ من الصين مثلا ـ قال «الصناعات المحلية معروفة وعلاماتها مسجلة، ويمكن التزييف في الصناعات المستوردة كذكر أو كتابة أنها من ايطاليا مثلاً، بينما هي من الصين، وهذا يحدث كثيراً». وقال وليد تفرتكوفيتش، 21 سنة، إنه يفضل الأحذية الرياضية، ويأسف لأنه لا وجود للأحذية الرياضية المحلية الصنع، قائلاً إن ماركته المفضلة هي «أديداس»، وتابع «لست من الطبقة الميسورة، لكنني أفضل هذا النوع.. فأنا أشتري حذاءً كل سنة وأحياناً كل سنتين، وهذا ما يجعلني أفضل هذا النوع من الأحذية». أما أحمد كولاش، 25 سنة، فقال إنه يشتري أحذيته من السوق من دون النظر إلى النوع أو الشركة أو بلد المنتج، وإنما يهمه السعر معلقاً «أرخص سعر هو من يفوز بمناقصتي، بقطع النظر على العوامل الأخرى، وليس صحيحا أن الارخص سعراً أقل جودة، بل أحيانا يكون العكس هو الصحيح». وقال منصور فلياكيتش، 50 سنة، إنه يعمل إسكافيا لما يزيد عن 30 سنة، وقد ورث الصنعة بدوره عن والده، كما أن عمر الصنعة في عائلته تزيد عن 100 سنة، فعمه وكذلك جده، امتهنا هذه الصنعة منذ زمن بعيد. وعما إذا كان الوضع الاقتصادي الصعب في البلقان عموماً، والبوسنة بصورة خلاصة، قد أثر على وضع الصنعة، قال إن «الوضع الاقتصادي الصعب، رافقه وجود سلع رخيصة من شرق آسيا، ولا سيما من الصين، مما جعل الاستفادة من الوضع الاقتصادي للناس مستحيلاً.

فقيمة حذاء جديد هي نفس قيمة تصليح حذاء قديم». وتابع «لدي طبقة من الزبائن يرغبون في أحذية عالية الجودة.. وثمة أشخاص لا يمكنهم الحصول على أحذية لها المقاسات الصحيحة لأقدامهم من إنتاج المصانع فيلجأون إلينا».

وعن أسعاره قال منصور إن سعر الحذاء في ورشته يتراوح بين 250 و300 يورو، وهو مصنوع من الجلد القوي الأصلي. ومن بين زبائنه العديد من الأجانب المقيمين والسياح وهم يمثلون نسبة 50% من مجموع زبائنه. ووافق منصور على ما ذكره الحاج عدنان عن نفور الأبناء من حرفة الآباء، قائلاً «نعم، إنهم يفضّلون إكمال دراستهم.. ولا يفكرون إطلاقاً في هذه الصنعة مما يهدّد استمراريتها»، لكنه أشار إلى أن «انقراض هذه الصنعة أو المهنة مستحيل، لأن الآلة تعجز عن تصنيع كل شيء».