نادية: أشعر بالفخر وأحب صهر الحديد بالنار

امتهنت «الحِدادة» وكسرت احتكار الرجال لها

الحاجة نادية وهي تعمل في الورشة («الشرق الاوسط»)
TT

«من جاور الحداد انكوى بناره».. لكن «الحاجة نادية» ـ تتحفظ عن دلالة هذا المثل الشعبي، مشيرة إلى أنها «نيران خضراء وصديقة» أصبحت تعشقها، بخاصة بعد وفاة زوجها واضطراها لإدارة ورشة الحدادة التي كان يمتلكها وتشكل مصدر الرزق الوحيد لأسرتها. نادية، التي خرجت على الأعراف والتقاليد التي جعلت مهنة الحدّاد في مصر حكراً على الرجال، أثارت دهشة الرجال والنساء معا حين أصرت على إدارة الورشة، والانخراط في مهنة شاقة وخطرة تعتمد على المصاهرة الدائمة بين الحديد والنار. تقع ورشة نادية في قلب مدينة الإسماعيلية، إحدى مدن قناة السويس. وكل يوم تستقبل زبائنها بابتسامة رضى وتفاؤل، سعيدة بأنها تكاد تكون أول امرأة في مصر، وربما المنطقة العربية التي تعمل في هذه المهنة.

تقول نادية عوضه الله، أو «الحاجة نادية» كما يناديها الجميع في الإسماعيلية :«اضطررت إلى العمل في هذه المهنة بعد أن توفي زوجي بشكل مفاجئ تاركا لي ثلاثة أولاد. كان علي تدبير نفقات المعيشة لهم، ولم يكن لدي أي مصدر رزق آخر غير ورشة الحدادة التي كان يمتلكها زوجي. أولادي بنتان وولد، الابنة الكبرى كانت في الصف الأول الثانوي وكان أصغر أبنائي في الصف الأول الابتدائي».

لم تنتظر نادية من أحد أن يقدم لها المساعدة، ولم تقتنع بنصائح وتحذيرات الأهل والأصدقاء، بأنه من الأفضل أن تؤجر الورشة وتوفر على نفسها العمل في مهنة شاقة. وبدافع من الوفاء والحب لزوجها نزلت إلى العمل، وفي فترة وجيزة أصبحت تتقن صيغه وأشكاله على جميع المعدات الموجودة بالورشة.

الصعوبة التي واجهتها في البداية أنها لم تخرج للعمل مطلقاً من قبل. فقد تزوجت وهي في التاسعة عشرة من عمرها، ومن أجل زوجها وحبها له تركت دراستها الجامعية حيث كانت في الصف الأول بكلية الآداب. كذلك لم يكن لديها خبرة كافية عن العمل في هذا المجال الغريب على عالم المرأة. مع هذا انطلقت نادية من بعض الخبرات البسيطة التي لمستها خلال الأوقات التي كانت تحضر فيها إلى الورشة للاطمئنان على زوجها. ثم واجهت المأزق الحقيقي مع موقف العمال والفنيين الموجودين بالورشة، «الذين أثاروا العديد من المشاكل في بداية عملي لأنهم كانوا يعتمدون على قلة درايتي بالعمل مما كبدني خسائر فادحة». ولكن نادية واجهت هذه المشاكل بحزم، وبعد نحو تسعة أشهر من الخسائر المتواصلة طردت جميع العمال من دون أن تغلق الورشة، بل كانت في تلك الفترة تقبل بعض الأعمال البسيطة التي تتمكن من عملها مثل لحام الأوكسجين. لكن إصرارها على سمعة الورشة وإتقان العمل في موعده، ساعدها على استقطاب اثنين من العمال والفنيين للعمل بورشتها، ولا يزالان مستمرين معها حتى الآن، ثم انضم إليهم عدد آخر من العمال ليصل عددهم الآن إلى ثمانية عمال.

عشق نادية للحديد ومقدرتها على تطويعه وصهره، عززا طاقتها العضلية والعقلية، وجنباها الكثير من المخاطر أثناء العمل، خاصة في عملية تقطيع الحديد (الخراطة) وتشكيله بدقة حسب الأشكال والوحدات المطلوبة. أمام آلة «الديسك» التي تستخدم في تقطيع الحديد وقفت نادية لتقطع قطعة حديد كانت تمسكها بيديها بمهارة شديدة وسط الشرار المتطاير، دون خوف أو رهبة، ثم انتقلت إلى آلة اللحام لتجري عملية لحام، ثم بدأت في تحويل قطعة من الحديد إلى شكل زخرفي باستخدام إحدى المعدات الموجودة بالورشة.

تقول الحاجة نادية: «أبدأ عملي في التاسعة صباحاً، فأفتح الورشة بنفسي أمام العمال وبعد تناولهم الإفطار جميعاً، أبدأ في توزيع العمل عليهم، وأقوم أنا بجزء منه وفي السادسة والنصف مساء ننهي العمل».

وأثمر إخلاص نادية لعائلتها وعملها، فكرمها المسؤولون المحليون بمحافظة الإسماعيلية مرتين، في المرة الأولى باعتبارها «سيدة مثالية» وفي الثانية باعتبارها «أما مثالية» بعدما عاونت أولادها الثلاثة في الحصول على مؤهلات جامعية.

حرصت نادية منذ البداية على التوفيق بين عملها في الورشة ورعاية أسرتها حيث تحملت ابنتها الكبرى التي كانت في الصف الأول الثانوي حينئذ جزءاً من المسؤولية معها..«كنت أقوم بتحضير طعام الغداء ليلاً، وفي الصباح كان يذهب الجميع إلى مدارسهم، وفي الثانية ظهرا كنت أعود إلى منزلي مرة أخرى لتناول الغداء مع أولادي، وكان هذا الوقت هو راحة الغداء لعمال الورشة. ثم أعود مساءً عقب انتهاء العمل لأتابع مع أولادي مستواهم الدراسي وتلبية جميع طلباتهم.. الحمد لله أولادي الثلاثة تمكنوا من إنهاء دراساتهم الجامعية وهذا ما كنت حريصة عليه طوال حياتي».

نادية تؤكد من خلال خبرتها بالورشة أنه لا يوجد فرق بين عمل المرأة وعمل الرجل مهما كانت صعوبة مجال العمل، وأن «المرأة قادرة على الدخول في أي مجال عمل حتى لو كان شاقاً».

ولا يجد الزبائن المتعاملون مع المكان أي اختلاف في الخدمات المقدمة من الورشة التي تديرها نادية والورش الأخرى التي يديرها الرجال، بل يقولون إن لديها التزاماً بالمواعيد ودقة في العمل والمواعيد قلما يتوافران في الورش الأخرى.

يعبر عن هذا حمدي محمد، 57 سنة، قائلا :«كان والدي يتعامل مع هذه الورشة قبل وفاة صاحبها الحاج أحمد، وبعد وفاته واصلت الحاجة نادية العمل ووجدناها في الورشة تؤدي عملها بكل دقة واثقان وتلتزم بالمواعيد التزاما كاملاً».

أما أيمن محمد أحد العاملين بالورشة فيقول:«أعمل مع الحاجة نادية منذ نحو 18 سنة.. لا يوجد فرق بين صاحب ورشة وصاحبة ورشة، المعاملة واحدة.. لم أشعر يوما أنني أتعامل مع سيدة.. وأنا التزم بكل تعليماتها واحترمها لأن معاملتها جيدة لجميع العمال».

وهو أيضا ما يؤكد عليه محمد رنجو من عمال الورشة، لافتا إلى «أن الحاجة نادية لديها خبرة كبيرة في العمل بالورشة ويمكنها أن تعرف الوقت الذي يستغرقه العمل وحجم الخامات المطلوبة». ويضيف إنها أصبحت الآن «اسطى كبيرا» رغم قلة علمها بأسرار المهنة عندما تولت إدارة الورشة. كما يشير رنجو إلى أن الحاجة ترتبط بعلاقات أسرية ودية بزوجات العاملين معها ودائما تكون بجوارهن ولها العديد من المواقف الإنسانية معهن.