«الركشة»... وسيلة مواصلات فرضت نفسها على شوارع الخرطوم

تلقى رواجاً من الناس لرخص ثمنها

«الركشة».. صارت سيدة الطرق في الخرطوم («الشرق الاوسط»)
TT

لا يكاد يخلو شارع من شوارع العاصمة السودانية، الخرطوم، من «الركشة»، (وسيلة المواصلات الصغيرة والزهيدة الثمن التي انتشرت قبل عشر سنوات ووجدت رواجاً وإقبالاً كبيراً من الجمهور). تسمع طنينها الشبيه بصوت الدراجة النارية يأتي من بعيد قبل أن تراها. وأحيانا تجدها تسير بطنينها في أسراب كالجراد أثناء ساعات الذروة.. مسببة قدراً لا يستهان به من الإزعاج على الطريق.. لكنها مع ذلك محببة للكثير من الناس الذين يفضلونها على وسائل المواصلات الأخرى. «الرّكشة»، المركبة «الهندية» الصغيرة الثلاثية العجلات معروفة بصناعتها المتقشفة الخالية من الكماليات، بل والجماليات أيضاً؛ لها ألوان تقليدية محددة كالأسود والأخضر والأحمر، ويشغّل محركها بمفتاح، بينما يكفي لتشغيل البعض منها عصا موضوعة في الأرضية قرب السائق تسحب لأعلى! ولا يوجد في «الركشة» إلا مقعد أمامي صغير للسائق الممسك بمقود كمقود الدراجة ومقعد خلفي كبير يتسع بقدرة قادر لخمسة أشخاص من الحجم المتوسط. أما السقف فرقيق مصنوع من الجلد قد يطير عند هبوب الريح. أضف إلى ذلك أنها خالية من الرفاهيات «الكلاسيكية» الموجودة في أية وسيلة مواصلات كجهاز الراديو أو المسجل، ولذا تجد أن معظم سائقيها يضعون جهاز تسجيل في الخلف يضاهي مركبتهم حجماً ويشغلونه بصوت عال للترفيه عن أنفسهم فتبدو المركبة وكأنها حفلة غنائية متنقلة، ولا يجد الركاب بداً من الإنصات عنوة فمساحتها الداخلية لا تزيد عن متر ونصف مربع. وبعض السائقين يجتهد في تزيين مركبته بالستائر الجلدية على الجانبين المفتوحين أمام الزبائن حيث لا أبواب ولا نوافذ. وبعضهم يضع الأنوار الملونة وباقات الزهور والدببة ولعب الأطفال المصنوعة من الصوف، هذا غير الملصقات التي تصل الى الزجاج الأمامي أمام السائق، وتكاد تغطيه تماماً بحيث تنعدم الرؤية، ومع ذلك فإن السائق يقود بارتياح وثقة.. فهو يقود بالحاسة السادسة، ربما، أو أنه يحفظ الطرقات ومطباتها عن ظهر قلب. نجاح «الركشة» يعود الى صغر حجمها وإنسيابية تحركها في الزحام أو الطرق الضيقة أو غير المعبدة التى يحبذها سائقو «التاكسي» الذي بات يعد وسيلة مواصلات تقليدية ويكاد ينعدم فى شوارع العاصمة.

مجدي علي، 40 سنة، الذي يسكن في أم درمان، يقول إنه يفضل ركوب «الركشة» لأنها توصله الى مشواره بسرعة، «وإن كانت فيها مجازفة بعض الشيء.. وذلك لأنها تتخطى الزحام بحجمها الصغير أو تسير في الطرق الجانبية عند توقف حركة السير بسبب حادث مروري أو بانتظار إشارات المرور البطيئة». بينما يقول إن آخر مرة ركب فيها «تاكسي» كان قبل خمس سنوات! أما أميرة إبراهيم، فتقول إنها تفضل «الركشة» لأن سائقيها يتميزون بالصبر ولا يتذمرون إذا طلبت منهم التوقف على الطريق لشراء شيء من صيدلية أو سوبر ماركت، وعادة يقبلون أيَّ مبلغ يعطونه. وتضيف «ميزة «الركشة» أنها توصلنا المشاوير الصغيرة في الحيّ أو الأحياء المجاورة». وعندما سألتها عما إذا كانت تفضلها على «التاكسي»، أجابت متسائلة «وأين هي سيارات التاكسي؟! لقد انعدمت من الوجود». وبالفعل تملأ «الركشات» الآن الأحياء السكنية بالخرطوم وضواحيها، وتراها تحمل ربات البيوت الى الترزي والسوبر ماركت وبائع الخضار داخل الحيّ، فلا يتبرم سائقها من الانتظار أو من المشاوير الجانبية الطارئة. أو تراها عند الصباح الباكر تحمل التلاميذ الى المدارس أو الطلاب الى الجامعات وتعود بهم عند الظهر بتعاقد سنوي كوسيلة مواصلات زهيدة. وفي منتصف أو أطراف كل حيّ تجد مجموعة من «الركشات» اتخذت موقفاً ثابتاً تتولى عبره ترحيل سكانه من وإلى الحيّ وهم الزبائن الدائمون، كما لا شك أن «الركشات» أوجدت فرص دخل لا بأس بها للعاطلين عن العمل، أو للطلاب في فترة الإجازات. أما سبب رخص سعر الانتقال بـ«الركشة» مقارنة بـ«التاكسي» فهو في أنها تكاد لا تستهلك وقودا يذكر. كما أن صيانتها لا تكلف كثيراً نظراً لميكانيكيتها البسيطة، بل يبدو أن كل سائقيها يمتلكون خبرة الصيانة، فتجدهم يقلبونها بأيديهم بسهولة، وينقبون في بطنها، أو يفتحون بابا صغيراً في الخلف حيث تقبع ماكينتها الصغيرة لإجراء التصليحات اللازمة، ثم يرفعونها لتعود إلى وضعها الطبيعي وبعدها تسير بيسر دون مشاكل!. مع هذا، تتخذ السلطات موقفاً صارماً مع أصحاب «الركشات» لوقوع حوادث عديدة بسبب تهوّر بعض سائقيها. كما أنه غير مسموح لها بالمرور عبر الجسور الكبيرة التي تربط بين المدن الثلاث المكونة لـ«العاصمة المثلثة» ـ أي الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان ـ، فكل مدينة بـ«ركشاتها» مكتفية! وفي الماضي وضعت السلطات قيودا كثيرة على «الركشات» للحد من مساحة تحركاتها.. إلا أن المواطنين احتجوا قبل السائقين لما يجدونه عبرها من فوائد كثيرة. ورغم هذه الفوائد التي لا حصر لها، يرى بعض الأطباء أن سبب زيادة أوزان السيدات في الفترة الأخيرة، والشكوى من آلام المفاصل بصورة عامة، سببهما «الركشات». فقد كانت السيدات وربات البيوت في الماضي ـ قبل ظهورها (الركشة) ـ يضطررن الى السير لزيارة الجيران أو محلات البقالة أو الى الأسواق أو يصلن الى الشوارع الرئيسية ليركبن «تاكسي» أو حافلة، ولكن اليوم ما أن تخرج السيدة من منزلها وتغلق الباب خلفها إلا وتجد «ركشة» تقف أمامها وكأنها تنتظرها.. فتركب بلا تردد لرخص سعرها ولتتجنب الحر.. ولتذهب الصحة والرشاقة الى الجحيم!