(مشهد أول) .. نسمات هواء الصباح الباردة تضرب الوجوه القابعة في ميكروباص صغير يقطع شارع 26 يوليو وسط العاصمة المصرية القاهرة..صباح اعتيادي تغرق فيه القاهرة كل يوم..صوت الكاسيت الذي يحرص السائق على رفعه بجنون يصم أذان المحشورين داخل ميكروباصه المتهالك..أما الأغنية الشعبية التي كان السائق يتمايل على وقع نغماتها الصاخبة، فكانت مفاجأة لكنها لا تغير شيئا من اعتيادية الصباح رغم كل شيء..فهي عبارة عن حوار بين الشيطان وبين عبد يحاول التطهر والكف عن المعاصي وسلوك الطريق القويم، وتأدية فروض الدين كما ينبغي، لكن الشيطان يحاول إيقاف هذه الصحوة مذكرا الإنسان بذنوبه:
«في الأول جرجرتك..من خيبتك خدرتك..وبقيت تعرف تكدب..وبتلعب على جارتك..وبقيت تلعب بوكر». لكن العبد يحاول المقاومة على ما يبدو قائلا للشيطان: «من بعد ما طاوعتك ما بقتش عارف أعيش..ودتني لحد النار وهناك معرفتنيش». غير أن الشيطان يندهش من محاولة التطهر الغريبة للعبد: «ليه عايز تتنمرد (تتمرد)..طب ما انت كده كويس..أما انت ابن لذينه». لكن العبد في النهاية يقرر التوبة النصوح موجها حديثه للشيطان بلهجة قاسية: «حسيبلك المعاصي وأزور رسول الله..وان جتني هابعدك بآيات كتاب الله..ومادام هارجع أصلي..مش هتعرف توصل لي..والناس بقى تتعلم..من كل اللي حصل لي». (مشهد ثان) حفل زواج جماعي أقامته إحدى الجمعيات الخيرية في القاهرة بحضور 50 عريسا وعروسة يحييه الفنان الشعبي عبد الباسط حمودة. لم يطلب منه المدعون كالمعتاد في مثل هذه المناسبات أن يغني أغاني الزواج والفرح، إذ استهل حمودة وصلته الغنائية على وقع رقص المدعوين والمتزوجين بأغنيته «أنا مش عارفني» التي صارت الأغنية الأشهر في الصيف الماضي بخاصة لدى سائقي التاكسي والميكروباص، حتى تحدث البعض عن وصول النسخ المباعة منها إلى المليون نسخة، والمطالبة بمنح مطرب الدويقة جائزة «الميوزيك أوورد» عن أغنيته التي تقول كلماتها: «أنا مش عارفني.. أنا تهت مني.. أنا مين أنا.. لا دي ملامحي.. ولا الشكل شكلي.. ولا ده أنا.. أبص لروحي فجأة.. لقتني كبرت فجأة.. ونزلت دمعتي.. قوليلي ايه يا مرايتي.. قوليلي ايه حكايتي.. تكونش دي نهايتي وآخر قصتي».
(مشهد ثالث) شاب يجلس على أريكة رخامية في حديقة عامة بميدان التحرير وسط القاهرة، في المقابل جلست عدة فتيات، قامت إحداهن بتشغيل جهازها المحمول على إحدى الأغاني الرومانسية لفيلم تيتانك الشهير، لكن الشاب يرد على الفور قبل أن تسترسل الفتاة في الحلم بتشغيل جهاز على أغنية المطرب أبو جريشة الشهيرة (145 جنيها) التي تقول كلماتها: «يا ناس باركولي.. بعتولي جواب بعتولي.. أخيرا وظّفوني.. على مكتب قعّدوني.. وفي آخر الشهر بالكمال والتمام.. عارفين قبّضوني كااااام.. 145 جنيها..أعمل بيهم أيه ولا أيه». ثم يبدأ في التهكم: «هما 145 جنيها.. شوفوا أنا هاعمل بيهم أيه.. هاجيب عربية وأملا التنك.. وهافتح بكرة حساب في البنك.. خلاص هاتجوز وأبقى عريس.. وأعمل شهر عسل في باريس».
هذه المشاهد الثلاثة تلخص الحالة المزاجية التي وصلت إليها الأغنية الشعبية التي تنتشر بين باعة الكاسيت وسائقي الميكروباص في القاهرة اليوم. وبرغم اختلاف البعض حول تصنيفها وإدراجها تحت طبقة الغناء الشعبي، إلا أن مثل هذه الأغاني أصبحت بمثابة تعويذة، تجدد إيقاعها كل يوم من لحم وطينة الواقع، حيث يمكن أن ترصد التماس بينها وبين حالة المد الديني من ناحية، والظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة من ناحية أخرى.
يقول المطرب عبد الباسط حمودة إن الأغنية الشعبية بطبعها حزينة والموال حزين، والناس «موجوعة وتعبانة»، انظر لأي شخص في الشارع، نادراً ما تجد واحداً يضحك من قلبه، لكن يمكن أن ترى واحداً لا يجد رغيف خبز لأولاده، وواحدا «طالعة عينه في الشغل لكن أجره لا يكفي»، غير الذي لا يجد عملاً في الأساس، وهناك من استيقظ ليجد شعره أصبح ابيض فجأة، وهو لا يزال في مقتبل العمر. يجب أن أغني لكل هؤلاء الناس»، ويضيف حمودة إن أغنية «أنا مش عارفني» هي صوت الضمير الذي يتحدث مع صاحبه بحزن بعد مرور العمر سريعا والملامح تغيرت والنهاية قربت.. يعني حكم ومواعظ أيضا».
أما المطرب والملحن الشعبي عصام جيجا فيقول إن الأغنية الشعبية لا تأتي من فراغ، لكنها تأتي من وسط جموع الناس والغلابة، لذلك لا بد من أن تمس شيئا داخلهم، هذا هو ما يشغل الناس.. الدين وكيف نرجع لله.. معاناة الموظف.. الإحساس بالمشاكل وحلها. ويضيف جيجا أن الأغنية الشعبية لا بد أن تحمل معلومة أو رسالة أو تنبه عن شيء فات على الناس، معتبرا أن هذا اللون امتداد لفن أحمد عدوية عندما غنى في السبعينيات أغنيته «حبة فوق وحبة تحت»، والمطرب عبده الاسكندراني عندما غنى عن ضرورة احترام آداب الدخول في بيوت الناس.. «يا داخل بيوت الناس.. بيوت الناس لها حرمة.. أدخل بأدبك ولا تنظر على حرمه».
ويرى جيجا أن الشجن هو التيمة المفضلة لدى المصريين حتى في أفراحهم. «يعني ما فيش مانع نسمع أغاني فرح وبعدين نغني: أنا مش عارفني.. هذا اللون يسعد الناس حتى في الأفراح، حتى الأم يوم فرح أبنتها تنخرط في البكاء.. احنا كده».
أما هشام موظف في هيئة البريد فهو يعتبر نفسه ضحية يومية لهذا النوع من الغناء أثناء احتجازه القسري في ميكروباصات القاهرة في ذهابه للعمل ومجيئه، متحفظا على وصف هذه الأغاني بالشعبية قائلا «إنها لا تستحق في الحقيقة هذا الاسم الراقي الموحي، الموضوعية تحتم علينا أن نطلق على هذه النوعية من الأغاني اسم «أغاني شوارعية»، لأنها لا تليق إلا بفاقدي الذوق والتذوق هذه الأيام». ويتساءل هشام متعجبا عما يجب أن يفعله داخل الميكروباص وهو يستمع لمطرب يقول: «ما تولع وتحشش، ولا احنا في بنزينه»! ويزداد غضب هشام وهو يحاول أن يخرج رأسه من نافذة الميكروباص حتى يهرب من حدة الصوت الصاخب..». الأغاني الشعبية قديما كانت تحث على مكارم الأخلاق، بداية من احترام الكبير، وحتى العفو عند المقدرة، أما أغاني اليوم فليست أغاني أصلا، وإنما هي اقرب إلى حفلات «الزار»، وهناك ألبوم من هذا النوع، نصفه بالكامل عبارة عن كلمة بلا معني يرددها صاحب الصوت المزعج بلا توقف وبشكل جنوني، وهي: «اللي لي لي اللي لي لي لي»!.
من جانبه يقول د. صلاح الرواي أستاذ الأدب الشعبي إن مثل هذه الأغاني لا يمكن إدراجها تحت صفة الغناء الشعبي مطلقا، لأن الأغنية الشعبية لها مواصفات وتؤدى في أطار من العادات الاجتماعية، أما أغاني الميكروباص فهي عشوائية حتى لو حققت جماهيرية وقتية، وحتى لو تحدثت عن قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية، لأنه لا يمكن في نهاية المطاف للجماعة الشعبية ترديدها.
ويرى الراوي أن هذه الأغاني تعكس حالة من التردي الثقافي تعيشه قطاعات كبيرة من المجتمع. لكن الأغنية الشعبية تحفظ إنتاجها الفني دائما بعيدا عن هذا التردي، مشيرا إلى أن الأغنية الشعبية تظل أداة مقاومة ليس بالمفهوم المباشر للكلمة، إنما هي تقاوم كل تشقق في الواقع الضاغط، إذ تقاوم الثقافة الشعبية هذه الحتميات، وتحيا طوال قرون ويرددها أجيال عديدة، وهذا ما نجده في أغاني البداوة في سيناء وحلايب والفيوم، والعديدة الصعيدية التي ترتبط بأحزان الوفاة. أما الأغنية العشوائية ـ بحسب الراوي ـ فهي لا تعبر في أي ظرف عن الجماعة الشعبية ولا تتشكل في إطار البنية الاجتماعية لها.