بيع الخضار.. مهنة العاطلين عن العمل في البلقان

أديس برنتشو لـ «الشرق الأوسط» أمارس هذا العمل لأعيش .. وأطعم من خلاله 5 أفواه

بيع الخضار أحد الحلول للتخلص من البطالة («الشرق الاوسط»)
TT

منذ طلوع الفجر وتحديدا منذ الساعة الخامسة صباحا ينهض سيناد من فراشه ليتوجه لسوق الجملة لجلب بعض صناديق الخضار والفاكهة، لرصفها أمام كوخ إلى جانب أكواخ أخرى من الورق المقوى، يطلق عليها مجازا أسواق الخضار، سمحت البلديات في منطقة البلقان بقيامها، بعد حرب تسعينات القرن العشرين، وهي حرب تمثل حلقة في سلسلة حروب لم تنقطع بالمنطقة المضطربة من أوروبا، منذ نزوح السلافيين إلى المنطقة في القرن التاسع. وقد تركت الحرب الأخيرة جراحا غائرة في البناء الاجتماعي، والوضع الاقتصادي على وجه الخصوص، غيرت نمط عيش الآلاف، الذين وجدوا أنفسهم بلا مورد رزق. وتفاقم الوضع بعد رحيل الكثير من المؤسسات الاغاثية بما في ذلك الوكالات التابعة للامم المتحدة. بينما لا تزال آثار الحرب بادية على البنية التحتية في المنطقة، وكذلك على حياة المواطنين والوضع العام لدول المنطقة، ولا سيما الجمهوريات المستقلة التي كانت تشكل يوغسلافيا السابقة. وكان على الناس تدبير أمورهم بأنفسهم، ومن ذلك لجوء الكثيرين إلى بيع الخضار في أسواق عشوائية. يكدس البعض منهم بعض الصناديق من الخضار والفاكهة في مساحات محدودة جدا لا تتجاوز المترين مربع ، ويظل طوال اليوم ينتظر فرصة لبيعها للزبائن من سكان الأحياء المحيطة، فجميع هذه «الأسواق» تقع داخل الأحياء السكنية للمدن.

وقال سيناد رونجيتش لـ«الشرق الأوسط» أنهيت دراستي الجامعية، وحصلت على الاجازة في العلوم السياسية، ولكني لم أعثر على عمل، لا في القطاع الحكومي ولا في القطاع الخاص، وكما ترى فأنا الآن أبيع الخضار، إلى جانب من لم ينه دراسته الابتدائية، بل هو أفضل مني لانه تأقلم مع هذا الوضع، وآفاقه محدودة لمحدودية امكانياته، أما أنا فأعاني الأمرين، الحسرة على سنوات عمري التي قضيتها في الدراسة، والتفكير في المستقبل، فأنا لم أدرس لأعمل في مجال بيع الخضار.

وعما إذا كان يكره العمل في المجال الذي اضطر إليه قال: «الجواب يكمن في طيات السؤال، فأنا مضطر ولكني لست مجبرا أي أنا الذي اخترت العمل في هذا المجال فهو أفضل من البطالة وانتظار المصروف من العائلة» وعن وضع عائلته أجاب «لو كان وضع عائلتي جيدا لما اضطررت للعمل، فأنا أساهم في مصاريف البيت من خلال هذا العمل ولكنها مساهمة رمزية كرمزية الربح الذي أجنيه يوميا» وقد امتنع عن ذكر أرباحه من العمل. والحقيقة أن الشكوى من الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية منتشرة بكثرة في البلقان، وغالبا ما تكون بقصد البحث عن مصادر أخرى، فعقب كل شكوى هناك استفسار عما إذا كانت هناك فرصة لعمل أفضل لدى السائل، أو لديه حل للمشكلة القائمة، أو يعرف من يقدر على المساعدة. وقال أديس برنتشو، الذي يعمل هو الآخر في سوق للخضار داخل الاحياء السكنية، لـ«الشرق الأوسط» وهو يكاد يضع أصابعه بعد جمعها في فمه: «أمارس هذا العمل من أجل الحياة» وتابع «هذا ليس اختياري، بل الظروف هي التي أجبرتني على ذلك» وذكر بأنه كان قبل الحرب تاجرا كبيرا يسافر ويجني الأموال الكثيرة وانتهى به المطاف إلى بيع الخضار برأس مال لا يتجاوز 250 يورو . وقال «لا يوجد رأس مال، خسرت كل مالي في الحرب، ولي ثلاثة أطفال، فأنا أطعم خمسة أفواه من هذا العمل، أنا وزوجتي وأطفالي الثلاثة» ويجد الكثيرون أنفسهم بدون مال بعد 13 سنة من نهاية الحرب مثل أديس، رغم أنهم يعملون من الساعة السادسة صباحا حتى السادسة مساء. ولا يلاحظ المرء وجود طمع أو جشع لدى باعة الخضار من خريجي الجامعات وغيرهم ، فكل ما يطمحون إليه هو رأس مال لا يزيد عن ألف يورو حتى يطوروا تجارتهم. فأديس مثلا لا يطمح سوى في الحصول على مساعدة بألف يورو حيث لا يتجاوز رأس ماله 175 يورو، وهو يحب العربية والعرب، على حد قوله، وسارع بكتابة اسمه باللغة العربية. وكما يوجد حملة شهادات وتجار مفلسين في سوق بيع الخضار والفاكهة، يوجد أيضا مجرمون سابقون، وأصحاب سوابق قضوا فترات طويلة في السجون، لكنهم تابوا وعادوا لجادة الصواب، وتزوجوا وأصبح لديهم أطفال ووجدوا في سوق بيع الخضار فرصة لبدء حياة جديدة بعيدة عن الاجرام بمختلف أنواعه ، مثل شوكورو فوسوات، ولا يعرف إن كان ذلك اسمه الحقيقي، أو اسما مستعارا كعادة من يخشون من ذكر أسمائهم الحقيقية، لأسباب أمنية أو اجتماعية مثل شوكورو. وقد حاول إخفاء مهنته قبل مباشرة العمل في سوق بيع الخضار ، وقد رد على سؤال لـ«الشرق الأوسط» بهذا الخصوص قائلا: «أفضل لك أن لا تعلم مهنتي قبل مباشرة العمل في السوق» لكنه أجاب عندما علم أنه سيكون أفضل، لو قال الحقيقة التي ستكون لصالح أي انسان يبحث عن فرصة للحياة في النور ، فذكر أنه كان يمارس الاجرام بمختلف أنواعه، وأن أحد أئمة المساجد سلمه مبلغا بسيطا لبدء حياة جديدة والعمل في السوق. وقال إن له ولدين، وإن البلدية وعدتهم ببناء لائق ليكون سوقا محترما، على حد قوله. وبدوره ذكر بأنه يحتاج لـ 500 يورو حتى يحسن من تجارته البسيطة ويكسب اللقمة الحلال له ولزوجته وابنيه، كما أكد لـ«الشرق الأوسط». أما تشالكا، فذكرت لـ«الشرق الأوسط» أنها أرملة وتعيل ولدين، وهي تعمل في السوق منذ 6 سنوات. وقالت إنها كانت تعمل في مركز تجاري تم بيعه، مما اضطرها وغيرها من العاملين للبحث عن مصدر رزق آخر ولم يكن متاحا سوى السوق فلجأت إليه. وعن موعد بدئها العمل والانتهاء منه قالت: «آتي للعمل في الساعة الخامسة صباحا وأظل في السوق حتى السابعة مساء»، وتابعت: «هذا العمل وأمثاله صعب على المرأة ولكن ليس لي خيار، فمن لا يعمل لا يأكل في هذه المنطقة» وعما إذا كان ما تجنيه كافيا لاعالة طفليها قالت «الحمد لله أنا راضية، ولكن نحتاج إلى مكان لائق، نحتاج لجدران وسقف بدل هذا البلاستيك، وننتظر من البلدية تنفيذ وعدها ففي الشتاء وعند تهاطل الثلوج نظل نرتجف طوال اليوم، وقد ماتت إمرأة العام الماضي من شدة البرد وهي أمام بضعة صناديق من الخضار». ورغم الجهد الكبير الذي يبذله العاملون في أسواق بيع الخضار من أجل طرد شبح البطالة وإعالة ذويهم، إلا أن تطلعاتهم بسيطة ومشروعة. مكان يقيهم عوامل الطقس من حر وبرد مميت، ورأس مال لا يتعدى ألف يورو لكل واحد منهم. علما بأن بكل سوق ما لا يزيد عن 20 من الباعة الفقراء الذين يكدون طوال اليوم من أجل الكفاف وأقل من الكفاف.