رحيل «ماما أفريكا».. وهي تغني ضد القمع

ولدت مريام ماكيبا في جنوب أفريقيا وغنت للقارة ولثوار الجزائر

مريام ماكيبا تغني في فولتونو الايطالية (رويترز)
TT

«إنها واحدة من أُمهات النضال ضد الفصل العنصري». بهذه العبارة نعى نيلسون مانديلا المغنية الأفريقية مريام ماكيبا التي خذلها قلبُها، أمس، عن 76 عاماً، بعد حفل غنائي في إيطاليا. وكرست ماكيبا، التي اشتهرت بلقب «ماما أفريكا» حياتها للدفاع عن حق السود في المساواة، ولعل الله مد في عمرها لكي تشهد بلوغ أول رئيس من أصل أفريقي عتبة البيت الأبيض الأميركي. عاشت ماكيبا عمرها وهي ترفع صوتها نفيراً ضد القمع، وماتت في نابولي، بعد لحظات من غنائها في حفل للتضامن مع الكاتب والمخرج الإيطالي روبيرتو سافيانو، صاحب فيلم «غومورا» الشهير الذي يطلب زعماء المافيا رأسه. وكانت الفنانة الكبيرة قد غنت لنصف ساعة وانسحبت وراء ستار المسرح بينما الجمهور يواصل التصفيق لكي يستعيدها ثانية، لكن المشرفين على الحفل وجدوها ملقاة أرضاً وفاقدة للوعي. وأنطفأت ماكيبا بسكتة قلبية لم ينفع معها إسعافها في المستشفى. وبين ولادتها في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا ورحيلها في كاستيل فولتورنو قرب نابولي، مسيرة دفعتها الى المنافي طوال 31 عاماً، وقادتها من غينيا الى بلجيكا، ومن الجزائر الى بغداد، مروراً بالولايات المتحدة حيث كانت زوجة لزعيم حركة «الفهود السود» ستوكلي كارمايكل، وحاولت الرجوع الى بلدها لحضور جنازة والدتها، فاكتشفت أن النظام العنصري السابق في جنوب أفريقيا جردها من الجنسية بسبب اشتراكها في فيلم «عد إلى أفريقيا» ومنعها من العودة. كما منع اغنياتها من التداول العلني. ورغم سنوات النفي وابتعادها عن مسقط رأسها، فإن العديد من دول أفريقيا كانت وطناً لها، ومنحتها جوازات سفر تكريماً لموهبتها ونضالها. وفي عام 1990، بعد خمس سنوات من تكريم الرئيس فرانسوا ميتران لها بتقليدها وسام الشرف الفرنسي من رتبة فارس في الفنون والآداب، حصلت على الجنسية الفرنسية، لكن الرئيس مانديلا أقنعها بالعودة الى موطنها في جنوب أفريقيا، بعد سقوط نظام التمييز العنصري. وبدأت ماكيبا حياتها الفنية منشدة في فريق «مانهاتن براذرز» وهي دون العشرين. وكتبت أشهر أغنياتها «باتا باتا» التي سجلت نجاحاً عالمياً ونقلتها عنها المغنية الفرنسية سيلفي فارتان. وفي عام 1965 حصلت على جائزة «غرامي» مع رفيقها في الغناء هاري بيلافونتي. وكانت أول مغنية سوداء تنال هذا التكريم. وانتقلت في ستينات القرن الماضي لتقيم بالولايات المتحدة، وتزوجت ستوكلي كارمايكل بعد أن جمعهما النضال من أجل مساواة السود بالبيض في الحقوق المدنية. وسبب لها نشاطها متاعبَ مع السلطات، فغادرت الى غينيا واستقرت فيها. وطافت ماكيبا مسارح العالم تغني لحركات التحرر من الاستعمار. ووقفت أمام الجماهير في الجزائر لتغني بالعربية وتهتف مع الآلاف «أنا حرة في الجزائر». كما سافرت مع زوجها كارمايكل الى بغداد، أوائل سبعينات القرن الماضي، أيام الجبهة الوطنية، وقدمت حفلة في قاعة الخلد حضرها جمهور يتعرف، أغلبه، على الأغنية الأفريقية للمرة الأُولى، ويعجب بصوتها المدوي ومرحها على المسرح وظفائرها الكثيرة.

مرت ماكيبا بفترات من الحزن والكآبة أبعدتها عن الغناء وعرضتها لضيق ذات اليد، خصوصاً بعد فقدانها لابنتها الوحيدة الشابة بونغي، عام 1985، لكنها تجاوزت المحنة وعادت الى الأسماع بعد اشتراكها في اسطوانة «غريسلاند» مع مؤلف الأغاني والموسيقي الأميركي بول سيمون. أما عودتها الحقيقية الى الأضواء فقد تحققت عام 2000 مع صدور اسطوانة جديدة لها بعنوان «هوم لاند» أي الوطن، وفيها تغني نشوتها بالعودة الى الحضن الأفريقي الذي أنجبها وعلمها تمتماتها الأُولى ثم صرخاتها الملتاعة. وبعد فترة من صدور الاسطوانة، دعيت ماكيبا لتقديم حفلة تاريخية، بحضور الآلاف، على مسرح «الأولمبيا» بباريس.

ولم تكن ماكيبا «أم كلثوم أفريقيا»، ولا فيروزها، رغم التقدير العالي الذي يكنه الأفارقة لها. إنها نمط آخر من المغنيات اللواتي غامرن بكل شيء في سبيل الحرية والعدالة، وهي بهذا تتجاوز صفة فنانة لتقترب من مرتبة الرمز السياسي، لذا تصدرت وفاتها نشرات الأخبار السياسية وتستعد القارة السمراء لتؤدي لها تحية الود