فرق الموسيقى الشعبية تعود إلى بغداد

بعد تراجع تهديد الجماعات المسلحة

صاحب محل لتأجير الآلات الموسيقية وإحياء الحفلات يعزف على آلة البوق في مكتبه بحي الفضل وسط بغداد امس (ا ف ب)
TT

ما من حي في بغداد، وكذلك في بقية المحافظات العراقية، يخلو من فرقة من فرق الموسيقى الشعبية والتي تحمل اسماء تقترن بالافراح، مثل فرقة «الافراح» او« مبروك» او«الاعراس»، وغيرها، حيث اعتاد العراقيون احضار هذه الفرق للعزف في مناسبات الزواج او وداع الحجاج او استقبالهم او مناسبات نجاح ابنائهم وبناتهم في الامتحانان المدرسية او تخرجهم من الجامعات وكذلك في حفلات ختان الاطفال.

الطقوس والعادات هي ذاتها، إذ تأتي الفرقة وتعزف موسيقى متعارفا عليها او لأغان شائعة، غالبيتها لكاظم الساهر، وتنثر خلال العزف وبينما يرقص الصغار والكبار، قطع الحلوى فوق الرؤوس فتكون مثار بهجة وسعادة ليس للعائلة المحتفية فقط وانما للحي واهالي الحي كله. على ان الفرقة الموسيقية لا تكتفي بالأجر المتفق عليه بينها وبين اصحاب الحفل بل يحصل اعضاؤها على المزيد من النقود من الجيران والمعارف، وكلما ازداد عطاء الجيران استمرت الفرقة بالعزف، وغالبا ما يردد رئيس الفرقة بعد الانتهاء من اية معزوفة كلمة «شوباش» ليذكر الحاضرين بدفع النقود، و«شوباش» وهي كلمة كردية تعني حرفيا «ليلة سعيدة»، لكن العازفين في هذه الفرق صاروا يستخدمونها باستمرار لحث الحاضرين بدفع المزيد من النقود و«البقشيش».

وفي الاعياد الدينية، الفطر والاضحى، تقوم هذه الفرق الشعبية، وكل حسب منطقتها الجغرافية، بالتجوال بين الاحياء السكنية والعزف امام باب كل بيت لدقائق حيث يحصدون اجورهم لينتقلوا الى البيت الاخر، وهكذا. على ان غالبية اعضاء هذه الفرق الشعبية هم من العازفين الفطريين، وبينهم قلة من المتعلمين والدارسين للموسيقى.

وتختلف طبيعة المعزوفات، واحيانا حتى الآلات الموسيقية المستخدمة حسب المناطق البيئية. ففي بغداد تستخدم الموسيقى الهوائية بانواعها والطبول، بينما تعزف هذه الفرق في المناطق الغربية من العراق موسيقى دبكة «الجوبي» الشعبية، وفي الجنوب، البصرة خاصة، تعزف الموسيقى الخليجية والتي تصاحب رقصات الهيوة والليوة ذات الاصول الافريقية، بينما تعزف الموسيقى الكردية في اقليم كردستان بواسطة المزمار والطبل.

هذه الفرق غابت طوال ما يقرب من اربع سنوات بسبب اعمال العنف واجتهادات بعض المتشددين التي حرمت الموسيقى، وقتل نتيجة ذلك العديد من العازفين ما ادى الى انحسار هذه المهنة واغلقت الكثير من الفرق مكاتبها خشية القتل على ايدي مسلحين.

اليوم عادت هذه الفرق لممارسة نشاطها بعدما اختبأت نحو اربعة اعوام بسبب تهديدات المتمردين، الشيعة والسنة، الذين اعتبروا عملهم منافيا للتعاليم الدينية.

ويقول محمد رشيد، 37 عاما، صاحب محل لتأجير الآلات الموسيقية في حي الفضل (وسط بغداد) ان «جيش المهدي وتنظيم القاعدة اتفقا على نقطة واحدة فقط، هي اننا نحن «الموسيقيين» عبيد الشيطان».

وعلق رشيد على جدار محله صورة لعازفين يعملان في فرقته قتلا من قبل ميليشيا شيعية مطلع عام 2006، عندما بلغ العنف الطائفي اوجه.

ويؤكد رشيد ان «المسلحين قتلوا عازف الساكسوفون اياد خيري الذي كان يعمل لدي بعدما خطفوه من منزله في مدينة الصدر، فيما قتل علي محمد، عازف الدف، في اليوم نفسه وعثرنا على جثته بعد عامين».

ويقول رشيد الذي اعاد فتح محله مطلع العام الحالي لمراسل وكالة الصحافة الفرنسية «قالوا لعائلاتهم ان هذا سيكون مصير كل متجاوز على الشرائع الدينية المقدسة». وواجه رشيد التهديدات نفسها من عناصر تنظيم «القاعدة» الذين نفذوا هجمات متواصلة في العراق ضد المدنيين الشيعة والقوات الاميركية على حد سواء.

ويستذكر رشيد كيف سيطر تنظيم «القاعدة» والجماعات المسلحة على حي الفضل في مارس (اذار) 2006، ودمروا محله آنذاك. ويضيف ان المسلحين قالوا له قبل ان يفر الى سوريا «ما تفعله هو حرام لان الموسيقى من عمل الشيطان واذا اعدت فتح محلك ستلقى حتفك».

وكان حي الفضل مشهورا بانتشار محال الموسيقى الشعبية التي تستخدم آلات الطبل والبوق والدف والتي تتولى مرافقة حفلات الزفاف الشعبي.

واعتبر تنظيم «القاعدة» ان الموسيقيين يمثلون تهديدا للأخلاق، كما هو حال باعة الكحول والحلاقين والنساء اللواتي لا يرتدين الحجاب، فاستهدفهم بالقتل.

بدوره، يقول عبد الكريم رشيد، 34 عاما، صاحب محل لتأجير الآلات الموسيقية انه توجه مع عدد من زملائه «لتقديم شكوى لدى امير تنظيم القاعدة الذي سيطر على المنطقة عندما حرمت القاعدة الموسيقى».

ويضيف رشيد الذي فتح محلا لبيع الخضروات خلال الفترة الماضية لكسب عيشه بعد ترك الموسيقى ان الرجل اجاب «إن منعها أمر من الله، وهو الذي يرزقكم».

ولم يحمل رشيد آلاته الموسيقية منذ ذلك الحين وحتى منتصف اكتوبر (تشرين الاول) العام الماضي، عندما تمكنت قوات الصحوة التي دعمتها القوات الاميركية من القضاء على تنظيم «القاعدة» في الحي.

ويقول حسين البصري نقيب الفنانين ان «هناك اكثر من 300 فرقة شعبية كانت تعمل في بغداد قبيل الغزو الاميركي عام 2003، لكن معظمها ترك العمل في 2004». ويضيف «منذ ذلك الحين قتل نحو خمسين عازفا، وانخفض عدد الفرق الى مئة». ولا تزال مهنة الموسيقى خطرة في بعض انحاء البلاد.

وكان مسلحون ينتمون الى «جيش المهدي» الشيعي قد هاجموا قبل فترة فرقة موسيقية شعبية في بلدة العزيزية (70 كلم جنوب شرقي بغداد) وحطموا آلاتهم.

وفي منطقة العلاوي وسط بغداد، تعرض الموسيقي احمد عمر مجيد (27 عاما) الذي عمل والده في الفرقة السمفونية الوطنية في عهد الملك فيصل الثاني، لتهديدات متكررة من المتمردين السنة في السنوات التي مضت.

ويقول مجيد «لقد تدخلوا في حياتنا، ارادوا ان يفرضوا علينا ثقافتهم الخالية من أي شكل من أشكال الفرح». ويضيف ان «العراقيين بطبيعتهم يحبون الحياة الممتعة، ويحبون الموسيقى».

ويعزف مجيد اليوم على ثماني آلات موسيقية مختلفة، ويتقاضى أجرا يصل الى حوالي 170 دولارا للحفلة الواحدة.

ويؤكد مجيد، الذي تعزف فرقته الحانها في ما لا يقل عن عشر حفلات زفاف شهريا، ان «العديد من الفنانين فروا من البلاد لكن البعض منهم بدأ بالعودة». بدوره، يقول علي قاسم، 40 عاما، الذي امضى حوالي عشرين عاما عازفا في الفرقة الموسيقية العسكرية، انه يخطط لاحياء حفل مع نجليه المراهقين. ويستذكر بحزن «لقد مرت بنا ايام قاسية جدا، قتل اصدقائي عندما كانوا متوجهين لاحياء احدى حفلات الزفاف».