سوق الحمير في مصر.. رواج يتجاهل الأزمة المالية العالمية

متعة البيع والشراء على وقع «النهيق» المتواصل

اسعار الحمير تبدأ من 800 جنيه وقد تصل إلى حوالي 3000 جنيه (تصوير: كريم نبيل)
TT

«سوق الحمير من فضلك».. كانت هذه العبارة كافية كي يبادر ركاب الميكروباص بالابتسام خاصة الأطفال منهم وكأن نكتة قيلت للتو، بينما اكتفى السائق بهز رأسه للتأكيد على أنه لن ينسى الإعلان عن موقع السوق لحظة الوصول إليه.

وطوال ساعة كاملة، قطعها الميكروباص في طريق متعرج كان النيل ملازما للجانب الأيمن منه، كان العم مصطفى تاجر الغلال يتحدث عن الحمار وأهميته للفلاح والبائع المتجول، رغم انتشار السيارات والجرارات الزراعية في كل مكان في العالم... «الحمار هو الصديق الحقيقي للفلاح، وليس أبو قردان، فبدونه لا يمكن للفلاح العمل في الأرض الزراعية والانتقال إلى بيته.. يحمل عليه التراب والغلة ويركبه في ذهابه إلى البيت وإيابه».

سوق الحمير، الذي يقام أسبوعيا في قرية المناشي، 30 كيلومترا شمال القاهرة، يجتمع فيه التجار والزبائن لإجراء عمليات البيع والشراء لعشرات الحمير بجوار جدول صغير يتفرع من النيل، وسط حضور كثيف من المهتمين الذين يحرصون على القدوم مع أول ضوء للصباح.

«اطمئن يا أستاذ.. سوق الحمير مستقر، والأسعار ثابتة ولا تخضع لظروف عالمية أو محلية.. أسعارنا مرتبطة فقط بمواسم الحصاد وميزانية الفلاح واحتياجاته».

كان هذا التصريح المقتضب من شعلان، أحد كبار تجار السوق، سببا في تنفس رواده من التجار والفلاحين وجامعي القمامة والباعة الجائلين الصعداء، خوفا من ركود قد يطال السوق الأهم لديهم بعد الحديث عن الأزمة المالية العالمية التي بدأ المصريون أخيرا يتابعون تأثيراتها عليهم.

شعلان الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره يعمل في هذه المهنة منذ نعومة أظافره.. «أنا ورثت هذه المهنة عن جدي وأبي، أشتري الحمير من الصعيد، التي تعد منبع الحمير الجيدة العفية في مصر، وأبيعها فيما بعد في القاهرة ومدن الدلتا.. هناك أسواق عديدة للحمير في قرى بنها وشبين القناطير والبراجيل ومدينة منفلوط بالصعيد.. أحمل الحمير على السيارة وأقضي اليوم في البيع والشراء.. مهنة صعبة لكنها مهنتي التي لا يمكن أن اتركها لأي شغلانة أخرى.. من شب على شيء شاب عليه».

سوق الحمير هو متعة الشراء والبيع على وقع النهيق المتواصل خاصة في الصباحات المشمسة، يلملم شعلان طرف جلبابه الفضفاض نافياً معرفته بنتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة، أو بالحزب الجمهوري الذي يتخذ من الحمار شعارا له.. «احنا بس عايزين نأكل عيش»، مؤكدا أن السوق يشهد الرواج الاعتيادي في مثل هذا الوقت من العام دون أي اعتبار لعوامل أخرى، لكنه في المقابل عبر عن خيبة أمله من الرئيس الأميركي جورج بوش خاصة سياساته في العراق.

كاريزما شعلان تؤهله كي يصبح يوما ما، في زمن نضوب الطاقة، ضيفا يوميا مهماً في برامج الفضائيات الاقتصادية، كي يحلل سوق الحمير ومؤشرات الهبوط والصعود فيها، بل يمكن أن يتحول سوق المناشي هذا في وقت ما إلى بورصة عالمية على غرار «الوول ستريت».

سوق الحمير أو «دونكي ستريت» المستقبل سوق استثنائي بالفعل، يعمل لعدة ساعات في الصباح فقط، ففي العاشرة صباحا ينفض السوق ولا يمكن رؤية حمار واحد هناك. كما يخلو من الصياح والشجار الذي يميز هذا النوع من الأسواق، إذ تمر جميع التعاملات فيه بهدوء غريب يخيم على أرجاء المكان، حتى النادل في المقهى المواجه للسوق والذي أحضر الشاي، وحصل فيما بعد على بقشيش سخي لم تبد عليه علامات السعادة أو الشكر والامتنان أو حتى الاضطراب، مما يطرح من جديد نظرية تأثر الإنسان بالمكان. يؤكد غلاب، أحد كبار تجار السوق، أن سعر الحمار يتفاوت بحسب حجمه وسنه، فالحمار الصغير الذي لم يتعد الخامسة من عمره يكون سعره 800 جنيه تقريبا، بينما يصل سعر الحمار الكبير الحجم أو ما يسميه غلاب «الحمار القافل» الذي تخطى الخمس سنوات إلى 2000 و3000 جنيه تقريبا، مشيرا الى أن معرفة أعمار الحمير تتم عن طريق فحص الأسنان، وهو الأمر الذي يحتاج إلى خبرة كبيرة في هذا المجال. ويضيف غلاب أن الأسعار قلما تهبط عن ذلك لشدة الطلب على الحمار طوال شهور العام خاصة في الصيف. تمر عملية الشراء في السوق عبر رقابة المجلس المحلي للقرية، الذي يحصل على 5 جنيهات عن كل عملية بيع وشراء، ويتم كتابة ورقة «مبايعة» تحمل اسم البائع ورقم بطاقته الشخصية، ويعلق شعلان عن ذلك قائلاً «هذا يضمن حق المشتري في حالة كان الحمار مسروقا، ويمكن من خلال هذه الورقة التوصل للسارق أيضا».

حلمي، بائع الخضروات الذي جاء للسوق كي يشتري حمارا، يدافع عن الحمار باعتباره حيوانا ذكيا ومهذبا «الحمار هو رأس مالي.. اشتريت واحدا هذا الصباح بـ 1200 جنيه بعد أن مات حماري السابق في حادث مروري.. الحمار يكلفني 100 جنيه شهريا نظير إطعامه». حلمي لن يكتفي على ما يبدو ببيع الخضار فقط، إذ ينوي استثمار مدخراته في عمليات بيع وشراء للحمير قائلاً «الحمير أمان والشغل فيها في المضمون.. يعني ما فيش خوف من جنون بقر ولا أنفلونزا طيور يمكن أن تصيبها، وكمان الحمير تتحمل الظروف الصعبة والشغل الجامد.. الناس دائما تحتاج للحمار خاصة في الريف والزراعة ونحن بلد زراعي، والحركة بركة وأنت سيد العارفين».

علاقة الحمير بمصر كبلد زراعي علاقة قديمة تلوح بدايتها على نقوش الفراعنة الذين لم يكنوا احتراما لهذا الحيوان الوديع، إذ تحدثت بعض المصادر عن أنهم كانوا يرون فيه رمزاً للغباء. ترسخت فيما بعد هذه النظرة السلبية في الوعي المصري، إذ يمكن اختزال ذلك كله في وصف شخص لشخص عند اتهامه بالغباء بأنه «حمار».

السينما المصرية بعراقتها لم تغفل من جانبها هذا الوجود الملموس للحمار، لكنه جاء على نحو رومانتيكي في محاولة على ما يبدو لرد الاعتبار للحمار جراء التجاهل الفرعوني له. لكن التعاطف المدهش للحمار بلغ ذروته مع تأسيس جمعية خاصة في ثلاثينات القرن الماضي تضع الحمار في مكانة محترمة، وذلك حينما قام الفنان المسرحي زكي طليمات بتأسيس «جمعية الحمير» التي ضمت كبار مبدعي مصر أمثال د. طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم ونادية لطفي وغيرهم، وكانت الجمعية تهدف لمقاومة رغبة الاحتلال البريطاني بإغلاق معهد الفنون المسرحية، وتم اختيار الحمار كونه الحمار الأكثر قدرة على الصبر والتحمل. والمدهش أن الفنانة نادية لطفي وصلت يوما إلى قمة العمل المؤسسي في الكيان حينما تم اختيارها رئيسة للجمعية.

جمعية الحمير فيما بعد تحولت إلى كيان خيري يقدم المساعدات للبشر والحمير أيضا، وطالب أعضاؤها الحكومة المصرية بإشهارها رسميا إلا أن الحكومة رفضت طوال السنوات الماضية اعتراضا على اسمها بوصفه يتعارض مع التقاليد المصرية.

غير أن النشاط الخيري لخدمة الدواب والحمير على نحو خاص بدأ في الازدياد في السنوات القليلة الماضية بعد تأسيس بعض الجمعيات من أبرزها الجمعية المصرية لرعاية الدواب التي تسعى لتشكيل تحالف يضم جمعيات الرفق بالحيوان والتي يصل عددها إلى 12 جمعية في محاولة لنشر فكرة الحماية للدواب، والعمل على حبها وعدم ظلمها ورحمتها، وتقليل ساعات عملها وسط إحصاءات رسمية تقول إن عدد الحمير في مصر يتخطى النصف مليون حمار.

مشهد سوق الحمير قبيل انفضاضه بلحظات يظل يحمل رسالة اطمئنان للتجار والمشترين الذين يشعرون أن المستقبل لهم رغم مشاهد السخرية والتندر التي يمكن أن يلمحوها في عيون المارة من حولهم.

رغم صعود الإنسان إلى الفضاء لم يهتز السوق الراسخ في مكانه منذ عشرات السنين ناهيك عن المستقبل، الذي لا يحمل الكثيرين من أولي الأبصار من مستخدمي وسائل النقل المختلفة على التفاؤل، وها هي خسائر شركتي «جنرال موتورز» و«فورد» الأميركيتين في الأيام القليلة الماضية جعلت البعض ينظر إليها باعتبارها بداية عودة الحمار إلى تصدر واجهة النقل مرة أخرى بجوار الخيل والجمال.. من يدري؟