الكتّاب العموميون يشتكون إهمال الدولة .. وبنات الكومبيوتر

يقدّر عددهم بأربعين ألف شخص في المغرب

كتاب عموميون بالرباط يمارسون عملهم في العراء (تصوير: مصطفى حبيس)
TT

«أنا أكتب بدلاً من أن أعيش. أجلس إلى منضدتي، وأبسط على الصفحة كل العنف المتراكم وجميع النزاعات التي خضتها». هكذا يتحدث الكاتب المغربي الطاهر بن جلون باسم الكاتب العمومي في رواية له بعنوان.. «الكاتب العمومي».

من هو الكاتب العمومي؟ إنه ذلك الشخص الذي يسخِّر وقته وإصغاءه وقلمه أو آلته الكاتبة العتيقة للآخرين، حاملا نبضهم وتظلّماتهم وشكاواهم على الورق، ومعبرا عن آرائهم مقابل أجر زهيد.

عبد الله مهماوي، رئيس الجمعية المهنية للكتاب العموميين باشتوكة أيت باها (جنوب المغرب) يقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن المراسلات التي يقوم بها الكتاب العموميون تشمل كل المواضيع العائلية والمطبوعات الإدارية والمقالات للمحاكم العادية، بجانب وثائق العقود والالتزامات، وقد انتزعت من الكاتب العمومي كُرها المذكرات الدفاعية أمام المحاكم باعتبارها من اختصاص بل احتكار المحامي». ويضيف «الجمعيات المهنية لممارسي الكتابة العمومية تطالب باسترجاع هذا النوع من العمل الذي كان يمارسه الكتاب العموميون بإتقان منذ زمن طويل، لأن المذكرة ليست سوى ما يفصح عنه الشخص الذي يهمه الأمر، ولا تخالف الوقائع والأحداث التي لها علاقة بموضوع الدعوى المدنية». ليس هناك أي ثمن محدّد مقابل كتابة كل وثيقة، فالثمن يرتبط بطبيعة الوثيقة والوقت الذي يتطلبه إنجازها والإجراءات المترتبة عنها. وكمثال على ذلك يورد مهماوي نموذج «إنشاء عقد القسمة أو التصفية في الإرث»، إذ يجب أولا إحصاء العقار وتوزيعه على الورثة، مما يتطلب معرفة الفرائض والعمليات الحسابية وغيرها، وكل هذا يستلزم جهداً ليس باليسير».

حتى الآن لا يوجد أي إحصاء رسمي دقيق لعدد ممارسي الكتابة العمومية في المغرب، لكن مهماوي يقول إن التقديرات تشير إلى أن عددهم يتراوح ما بين 30 ألفا و40 ألفا. وإذا كان البعض يظن أن الكتابة العمومية مهنة لا توجد إلا في الدول التي تنتشر فيها الأمية بنسبة كبيرة، فإن مهماوي يصحّح هذا التصوّر، وهو يرى أنه لا خوف على الكاتب العمومي من البطالة رغم تزايد فرص التعليم، ويذهب بعيداً إلى حد وصف المهنة بأنها «مهنة المستقبل». ويقول إنه «كلما تطور التعليم واتسعت دائرة الثقافة زادت الحركية عند الكاتب العمومي، الذي تطوّر مع العصر في القرن الواحد والعشرين، واستوعب تقنيات التكنولوجيا الحديثة في التعامل مع جهاز الكومبيوتر، فمعظم الكتاب العموميين اليوم مرتبطون بشبكة الإنترنت، وأصبح لجمعياتهم مواقع يطرحون فيها قضاياهم ومشاكلهم». ويتابع «بعض الكتاب العموميين يستعينون بجهاز سكرتارية متكامل في مكاتب أنيقة يعمل فيها أكثر من أربعة أفراد، وثمة من يجيد اللغة العربية والفرنسية، ومنهم من يتقن الإنجليزية وغيرها من اللغات الحية».

ولكن بعدما كان الكاتب العمومي يكاتب الإدارات لعرض شكاوى الناس، أصبح هو بدوره يرفع الصوت عالياً بالشكوى، نظراً لأن المهنة غير مقننة، وبالتالي غير خاضعة لأية شروط لممارستها. ولهذا السبب يقول مهماوي «تكوّنت جمعيات من أجل الدفاع عن المهنة وأخلاقياتها، والحفاظ على حرمتها، من خلال المطالبة بإصدار قانون للكتاب العموميين على غرار القوانين المهنية الأخرى المعمول بها كقانون المحامين، وقانون الموثّقين وغيرهم». فكغيرها من المهن غير المنظمة، يواجه ممارس هذه المهنة صعوبات جمة في تعاملاته مع الإدارة. وحسب مهماوي: «العراقيل تواجه الكاتب العمومي في كل مكان، وهو لا يستطيع تحصيل حقه من المتهجّمين عليه، لكونه منعدم الصفة عند لجوئه إلى بعض الجهات طلباً لإنصافه، ورغم ذلك فإنه منخرط في النضال لتحقيق مطالبه وتطلعاته المستقبلية». وتتلخّص هذه المطالب في نظر مهماوي «في تنظيم المهنة، وذلك بإحصاء الممارسين فعليا لها، والاعتراف بكفاءاتهم لما لهم من تجربة عالية في الكتابة والإجراءات الإدارية، وإخضاع الممارسين الجدد لشرط الحصول على مستوى ثقافي لا يقل عن شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) على الأقل، وأن تكون كل وثيقة كتبها الكاتب العمومي حاملة لخاتمه وإمضائه، على أن تسلم لكل ممارس للمهنة لمدة عشر سنوات درجة موثق معترف به». من ناحية ثانية، في مدخل باب الأحد في المدينة العتيقة بالعاصمة المغربية الرباط، يشكو الكتاب العموميّون من سوء أحوالهم المهنية وتدنّي مداخيلهم المادية بفعل عدد من العوامل، منها، نقل محطة المسافرين، منذ بضع سنوات، من ساحة باب الأحد وسط الرباط، إلى مكان آخر بعيد عنهم، ممّا قلص نشاطهم المهني. ثم أن انتشار الحواسيب (أجهزة الكومبيوتر) خلال الفترة الأخيرة في أندية الإنترنت، جعل بعض الفتيات العاملات فيها يتولين مهمة كتابة الشكاوى والرسائل والمقالات بثمن أدنى بكثير من ممارسي المهنة الحقيقيين. ومن كثرة تردّد الصحافيين عليهم وتصويرهم «دون فائدة» ـ حسب قول أحدهم ـ، فإن الكتاب العموميين بساحة باب الأحد الشهيرة في الرباط، باتوا يتجنّبون التحدث عن مشاكل مهنتهم، وذلك بعدما يئسوا وفقدوا الأمل بأي إصلاح يمكن أن يطالهم ويخفف من معاناتهم.

فقد رفض احمد الزمري، رئيس جمعية الكتاب العموميين في الرباط، بنبرة غاضبة ويائسة مشوبة بنوع من الضجر، الإدلاء بأي تصريح، قائلاً: «ما جدوى التكلّم كل مرة عن شؤوننا؟ لقد جاءت كاميرات القنوات التلفزيونية المغربية والإسبانية والألمانية، وصوّرتنا... ولم يتحقق أي شيء. رجاءً أتركونا في حالنا».

بيد أن زميلاً له هو سعيد المنديلي، لاحظ جزءاً من تذمره، فانبرى يقول «إن وضعية الكتاب العموميين في الرباط يرثى لها»، لافتاً إلى صناديق القمامة المحيطة بهم، والروائح الكريهة المنبعثة من قنوات الصرف الصحي، وبقايا الخضار، بسبب مجاورتهم للسوق المركزي.

ويضيف المنديلي متأففاً: «لقد تعبت من تنظيف المكان كل يوم من الأوساخ والقاذورات». مشيراً إلى أنه يشتغل في هذه المهنة منذ عقد السبعينات من القرن الماضي، وإن هناك من الكتاب العموميين من أمضى في المهنة أكثر من أربعين أو خمسين سنة.. ولم يستطع أن يحقق الحد الأدنى لمعيشته.

وباختصار، يشعر الكتاب العموميون في ساحة باب الأحد بأن الدولة تخلّت عنهم وتركتهم في العراء، بطاولاتهم وأجهزتهم القديمة للكتابة.. تماماً «على الرصيف»، عرضة للشمس والبرد والمطر وتحولات المناخ، من دون أن تهيئ لهم مكاتب أو أماكن يمارسون فيها عملهم في ظروف ملائمة تحفظ كرامتهم.

لقد اعتادوا العمل في مدخل باب الأحد لسنوات كثيرة قبل أن يتحول المكان إلى «متحف» لصور الرباط القديمة بالأبيض والأسود، فأخرجوا منه بعد إعطائهم وعوداً بتسليمهم «أكشاك» ومحلات ملائمة لهم، ولكن السلطة المحلية لم تف بالوعد المقطوع حتى الآن. ويحتج كاتب عمومي، متقدّم في السن، حفر الزمن والقهر والتعب أخاديد على ملامحه، فيقول: «من الأكثر قيمة.. العنصر البشري أم الصورة الفوتوغرافية القديمة التي لا يراها أحد من عابري السبيل؟».

ويتذكر الكتاب العموميون في الرباط الماضي بنوع من الحنين: ... كانت الظروف أحسن والمداخيل أفضل، أما اليوم فلا شيء غير «الانتظار القاتل»، وفق تعبير أحدهم. فلا مردودية مضمونة ولا تقاعد ولا تأمين ولا تغطية صحية تقي من غدر الأيام. وأكمل أحدهم الصورة القاتمة قائلاً: «لقد توفي خمسة كتاب عموميين متأثرين بأمراض مزمنة.. وتركوا هذه الدنيا الفانية، وفي نفوسهم حسرة، وفي أعماقهم مرارة وحرقة وألم».