فوزية.. بائعة الجرجير تشخِّص الحالة المصرية

قالت إن العلاج «شوية ذمة وضمير»

فوزية تحنو على خضارها بلمسة حنان خضراء (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

بالفطرة، وبظلال من خبرتها البسيطة في السوق، شخّصت فوزية بائعة الفجل والجرجير في حي المهندسين بالجيزة، الحالة المصرية.. لم تتكلم كثيراً، ولم تتمسّح بأهداب نظرية اقتصادية أو سياسية. فقط قلّبت حِزَم الخس والجرجير والبصل المتراصة بأناقة فوق فَرْشتها، وقالت:

«شوف يا أستاذ، علاج بلدنا شوية ذمة وضمير، والناس لازم تخاف على بعضها، وكل واحد يستر التاني.. كلنا مصريون وبنحب مصر».

تلقائية فوزية وعفويتها لا تعبّران فقط عن طيبةٍ ضلّت مكانها في نفوس كثيرين من المصريين، بل أيضا تعكس مقدرة على التشبث بالحلم، وأنه يمكن أن تصنع شيئاً مهما كانت الصعاب والعراقيل كبيرة.

أفتح دفتر فوزية.. امرأة على مشارف الخمسين، بوجهها سمرة الأرض، وخلف نظارتها الطبيّة تخايلك نماذج لأمهات ونساء قهرن الفقر، وتعلمن كيف يقرأن الحياة بعرق الجبين، وشرف الكلمة والروح، وبقناعة ورضى لا تشوبهما حسابات الربح والخسارة. مثل كل الكادحات تبدأ فوزية يومها في السادسة صباحاً. تعدّ وجبة الفطور لزوجها المُقعَد المريض وأولادها الستة . ثم تهرع إلى مكان فَرْشتها بأحد الأركان على ناصية تقاطع شارعي سورية والحجاز الشهيرين في حي المهندسين. تتسلم من مُوَرِّدْ الخضار أحزمة الخس والجرجير والفجل والنعناع، وكمية من ثمار الليمون. وبهمة ترتّب ثروتها الطازجة على الفَرْشة، بعد أن تشذبها، وتنقيها من الأعواد الضامرة الصفراء، وتغطيها بملاءة من الخيش نظيفة ومبلولة بالماء. وما هي إلا لحظات حتى تتحوّل الفرشة إلى «كرنفال» شهي من الألوان الحية.. تقول فوزية «الإنسان الطيب قلبه أخضر زي قلب الخساية.. أنا باجري على رزقي والباقي على الله.. تربيت يتيمة، أنا وأختي الكبيرة. والدي مات وأنا طفلة في اللفّة.. اتحرمت من التعليم، واشتغلت في مهن كثيرة .. لكن الحمد لله».

حرمان فوزية من التعليم ومحنة اليتم المبكر، وشظف الحياة، كل ذلك زادها إصراراً على تعليم كل أفراد أسرتها الكبيرة. تقول بمسحة من الاعتزاز: «أكبر أولادي الصبيان مهندس كومبيوتر، تخرج العام الماضي في المعهد العالي. وهاجر أكبر البنات بتدرس في معهد السكرتارية وإدارة الأعمال. وباقي الأولاد في الابتدائي والإعدادي .. كلهم شاطرين وبيحبوا التعليم».

لا يعرف محل فوزية الجدران ولا الأبواب والشبابيك، وليس فيه ماكينة للحساب. إنه مجرد كائن جوّال، يحلق بحيوية في فضاء مفتوح. ثلاثة أقفاص من جريد النخل يظللها مفرش من قماش الخيش الشعبي الثقيل، وسلتان صغيرتان من أعواد القش، ودلو فيه ماء لترطيب المكان من غبار العربات، ومظلة للوقاية من حرارة الشمس وزخّات المطر المباغتة.

هذه المفردات البسيطة إلى حد التقشّف والزهد لا تصادر حق فوزية في الحلم بمحل صغير، وبكرسي مريح بدلاً من قفص الجريد الذي تجلس عليه نحو 10 ساعات يوميا، محتفظة بابتسامتها القنوع المرحة ووقارها الرصين كابنة بلد، تعرف الحق والأصول. تقول «نفسي حتى في كشك صغَّير، أفضل من قَعْدة الشارع.. وهو برضه يحميني من البرد ولفحة الحر.. لكن الحمد لله على كل حال».

خبأت حلم فوزية في صدري وداعبتها: «لو بترفعي السعر شوية كان ممكن يبقى عندك كشك، ومش هتفرق حزمة الجرجير تبقي بخمسين قرش، ولا ربع جنيه. الدنيا غليت والأسعار في الطالع».

بنبرة أسى وغضب أجابتني «أنا قلتلك الذمة والضمير.. أنا بأبيع التلات حزمات جرجير بجنيه، والبصل والفجل والنعناع، الواحدة بخمسين قرش، وأنا راضية بمكسبي الحلال، ومفيش أحسن من اللقمة الحلال.. علشان كده ربنا مبارك لي في أولادي.. ربنا موجود ورحيم وستار.. قول يا ربّ».

يتدخل أحمد شاب في منتصف العشرينات «يا أستاذ الست دي نظيفة وعفيفة. أنا ساكن في أول الشارع وكل يوم باجي آخد منها الخضار وأنا مطمئن ومبسوط.. نادر لما تلاقي بيّاعة زيّ فوزية، خضارها يشرح القلب». شهادة أحمد برغم عدم احتياجي لها، أثلجت صدر فوزية، ووثقت تحيتي الصباحية لها وأنا أعبر الشارع ذاهباً إلى العمل. كما وسّعت أفق الحوار بيني وبينها. استغلت إطراء أحمد لها، لكن قبل أن أهم بسؤالها بادرتني بحدسها الفطري.. «زملاتي ناس صريحة، غلابه على باب الله، رزقهم على كف الريح. الخضار عمره قصيّر، والزبون بيحبّه طازه، ولو قعد لبكرة هـ يدبل وهـ يترمي».

هذا الهاجس.. هاجس الذبول والضمور، دفع فوزية إلى أن تقيس حياتها كل يوم، وبشكل لا إرادي، بعدد حِزم الخس والجرجير. وربما لذلك تمكث كل هذه الساعات الطوال. صراعها الأساسي من أجل اللون الأخضر، وكيف يظل النبات محتفظاً بنضارته لكي تبيع أقصى ما تستطيع، أو يظل حيز الخسارة في معدله اليومي المألوف.

في إحدى ضواحي حي بولاق الدكرور الشعبي ـ أو «الصين الشعبية» كما يحلو للكثير من المصريين تسميته ـ تقطن فوزية. تعلمت من أزقة الحي المكتظ بالبشر من كل جنس ولون، أن «البركة في اللمة». تحس بذلك حين تغلق محلها الطائر، وتلتم مع أولادها الستة وزوجها حول «طبلية» العائلة، يأكلون لقمة هنية. أو حين يرتمي ابنها الصغير في حضنها، وتسرِّب إلى فمه خلسة قطعة من الحلوى لفلفتها بعناية في ورقة مفضضة، حتى تظل طازجة مثل أعواد الجرجير.

لكن في حي المهندسين الرّاقي، حيث الزحام يشبه قناع الممثل على خشبة المسرح، تعلمت فوزية أن الوقوف في الممنوع خطر، وعلى سجيتها تعبر عن ذلك.. «أنا مش قاعدة في الممنوع، رجالة البلدية مسامحِني، عمرهم ما عملوا ليّه مخالفة، وأرض الله واسعة، والشارع يساعي الكل».

وبرغم ذلك لا تخفي فوزية غضبها من ضجيج الشارع، وزحمة العربات، خاصةً أن أصحابها، يمرّون عليها مرور الكرام، ونادرا ما يتوقفون للشراء منها ولو حزمتين من الجرجير الطازج.

حاولت أن أغيّر دفة الحديث حين لمحت في عينيها مسحة غضب، سألتها «بتحبي السيما..؟» أجابت «أيوه.. بحب أم كلثوم وشادية وإسماعيل ياسين. دول ناس طيبين وفنانين بجدّ».

وتبتسم فوزية وأنا أدوِّن بسرعة كلامها، فترجوني بنبرة تبدو حازمة إلى حد ما.. «سايقه عليك النبي مش عايزة أي كلام يسبب حرج لأولادي. أو يسبب مشاكل ليّه هنا.. أنا باحب المكان ده وباتونّس بيه».

وتتسع «ونسة» فوزية حين تمر عليها ابنتها الوسطى نسمة. فبرغم الوقت القصير التي تقضيه معها إلا أنها تخفف عنها الرتابة والملل. لكن حبل الدردشة يمتد بشكل شائق حين تعرّج عليها إحدى صاحباتها، فتقلّبان معا شجرة الذكريات.. ساعتها يمكنك أن تسمع ضحكة لها رنين خاص تطلقها فوزية في فضاء محلها المفتوح، وكأنها تعويذة تتحصن بها ضد غول الزمن والفقر. لا تحمل فوزية وساماً أو شهادة تقدير على قصة كفاحها وإخلاصها. كل ما في جعبتها من حنين.. مشهد تلك الممثلة الشهيرة «إللي بتظهر في التلفزيون والسيما» ـ عبثاً حاولت فوزية تتذكر اسمها ـ وهي تنزل من عربتها الفارهة، وتشتري كمية من الخضار، وتودعها بعد أن أجزلت لها العطاء، بلفتة سينمائية ستظل محفورة في ذاكرتها.. «وشّك (وجهك) حلو ينفع في السيما!».