المصورون الرحالة الأجانب.. «حدوتة مصرية» في حنايا التاريخ

جسدوا بلاغة الفن الإسلامي في لوحاتهم وساهم بعضهم في الكشوف الأثرية

جامع أحمد بن طولون بريشة بريس دافن («الشرق الاوسط»)
TT

منذ أكثر من مائتي عام وفي زمن لم يعرف هوس الكاميرات الرقمية، ولا الهواتف الجوالة المزوَّدة بكاميرات عالية التقنية، جذبت آلاف الأمكنة عيون الرسامين المصورين الرحالة من فرنسيين وبريطانيين مثال سافاري، وفولني، وباسكال كوست، وبريس دافن، وديفيد روبرتس وغيرهم، ممن بهرتهم الحضارة المصرية وسحر الشرق، وسجلوا بأدواتهم البسيطة وريشاتهم الخاصة، أدق تفاصيل رحلتهم، وما شاهدوه من مشاهد يختلط فيها اليومي العابر بوقائع التاريخ والجغرافيا والتراث الشعبي، تاركين لنا كنزًا زاخرًا ينقل لنا بصورة تنبض بالحياة ما كانت عليه مصر في تلك الفترة.

تقول سوزان عابد الباحثة بمكتبة الإسكندرية منسقة مشروع ذاكرة مصر المعاصرة، إنه على مر التاريخ كانت مصر مصدراً لوحي الرحالة والرسامين وكانت لهم لوحات عديدة، إلا أن هذه الظاهرة قد انتشرت منذ عهد محمد علي باشا، خاصة مع البعثات العلمية التي استقدمها لمصر، فبتوصية خاصة من «المسيو جومار» المشرف على البعثات العلمية التي أوفدها محمد علي إلى باريس؛ بدأ باسكال كوست Pascal Coste رحلته إلى مصر للعمل بخدمة الباشا. ولم يكن يتخيل هذا الفنان الشاب، أنها نقطة تحول في حياته جعلته أسيرًا لكل ما هو مصري، عاشقا لكل تفاصيل عمائرها ومدنها وقراها. فقد جاء إلى مصر عام 1817 ليشرف على تأسيس مصنع للبارود، وعمل دراسات لازمة لبعض الترع المصرية المراد شقها آنذاك. فإذا به يقع في هوى العمائر الإسلامية والمعابد الفرعونية فأخذ يسجلها بريشته المتميزة التي ساهمت دراسته الأكاديمية في ثقل الموهبة الخاصة التي يتمتع بها في فن الرسم، فهو دارس لفنون الرسم والتصوير في بداية حياته بمدرسة الرسم في مرسيليا، ثم سافر إلى باريس بتوجيه من أستاذه المسيو M. pemmchoud المهندس المعماري، والتحق بمدرسة الفنون الجميلة بباريس ودرس فيها العمارة، حيث التقى بالمسيو جومار وجاء بعدها إلى مصر.

تضيف عابد أن باسكال كوست مكث في مصر عشر سنوات، عاد بعدها إلى مرسيليا في عام 1827؛ حيث عمل أستاذًا للعمارة هناك، واستطاع باسكال أن ينشر عمله الضخم عن مصر الذي ضمنه أروع اللوحات والرسوم الملونة. وقد تمت طباعة الكتاب في الفترة من 1837إلى 1839 تحت عنوان «العمارة العربية وآثار القاهرة» (Architecture Arabe au Monuments du Caire).

وقد استطاع باسكال كوست في لوحاته أن ينقل برسوم واقعية تمتلئ بالرومانسية الحالمة صورة حية من مصر آنذاك في الفترة من عام 1817 وحتى عام 1827. دقة باسكال في نقل أدق التفاصيل لاسيما في اللوحات التي تضم مناظر العمائر والأبنية أن يستعين به كلوت بك، ناظر مدرسة طب قصر العيني في كتابه الذي كان يعده عن مصر «لمحة عامة عن مصر» الذي ظهر عام 1840 في وضع فصل عن الفن الإسلامي، استطاع فيه أن يقدم تسجيلاً دقيقًا عن العمارة الإسلامية في مصر. ولم تخلُ مصر من عاشقيها فترة طويلة، كما تؤكد سوزان عابد، فعقب رحيل باسكال كوست جاءها فنان من أشد المولعين بها المغرمين بفنونها؛ هو بريس دافن أو كما يعرفه البعض بـ«إدريس أفندي». ينتمي دافن إلى أسرة إنجليزية الأصل هاجرت إلى فرنسا فرارًا من جور الملك شارل الثاني؛ وتعلم في مدرسة الفنون بشالون، وحصل على إجادة الهندسة المعمارية عام 1825 وهو دون العشرين من عمره.

بدأ دافن ترحاله بسفره إلى الهند، حيث عمل سكرتيرًا لحاكمها، ثم إلى فلسطين، وعندما أحس بتشجيع محمد علي باشا للأوروبيين وتمتعهم بمزايا خاصة نظير خدمته، شد رحاله إلى مصر فجاءها في عام 1829، والتحق بخدمة الباشا حيث عينه بالفعل مهندسًا للري وأستاذًا للطبوغرافيا بمدرسة أركان الحرب بالخانكة، ومربيًا لأبناء إبراهيم باشا. إلا أنه سرعان ما ضج من العمل وقرَّر التفرغ لفنه، ويقال إنه اعتنق الإسلام وعرف باسم إدريس أفندي، وأخذ يتنقل بين فلاحي مصر من القاهرة إلى الدلتا إلى الإسكندرية إلى صعيد مصر والنوبة، مسجلاً في كل رحلة مشاهداته عن معالم المدن من عمائر ومناظر طبيعية ساحرة، حتى استقر به الترحال في مدينة الأقصر عام 1838. ولم تنحصر أعمال دافن في مجرد الرسم والتصوير الخارجي للأبنية، بل شارك في كثير من أعمال التنقيب المهمة، واستطاع أن يتوصل إلى اكتشافات لا بأس بها منها اكتشافه لاثنتي عشرة غرفة في معبد خوفو، بالإضافة إلى الكشف عن بردية كتبت بالهيراطيقية ونسبت إليه. وقد غادر دافن مصر في عام 1844 وعاد إليها مرة أخرى عام 1858 أي في عهد الوالي محمد سعيد باشا مستكملاً رحلته في مدن مصر.

وتقول عابد إن أشهر اللوحات التي رسمت عن مصر، فكانت بريشة الفنان الإنجليزي ديفيد روبرتس؛ الذي لمع اسمه في فن الرسم، مقترنًا في أول الأمر باسم المصور جون فردريك لويس؛ وذلك بفضل تصويرهما لإسبانيا التي زارها عام 1830 بعد طوافهما بأنحاء القارة الأوروبية، ثم امتدت رحلات روبرتس بعد ذلك إلى طنجة في أول زيارة له للمدن العربية ثم إلى مصر. وقد وضع كتابه الضخم «الأراضي المقدسة ومصر والنوبة» في ثلاثة مجلدات فضلاً عن مجلد عن مدينة القاهرة، وقد أهدى روبرتس كتابه إلى ملك فرنسا لوي فيليب، وساهم هذا الكتاب في زيادة شهرة مؤلفه كما كان له تأثير مهم على كثير من الأوروبيين الذين شغفوا بزيارة مصر لرؤية آثارها التي نقلتها لهم لوحات روبرتس.

رحالة كثيرون زاروا مصر وتمتعوا بطيب هوائها واعتدال مناخها، تنوعت جنسياتهم ووظائفهم؛ بعضهم جاء للعمل في خدمة حكام مصر؛ وبعضهم جاء للدراسة والتمتع بآثارها النادرة؛ ساعدهم على هذا تشجيع الحكام لهم وتوفير سبل الراحة والأمان، فقد اهتم حكام مصر بتشجيع الأوروبيين على زيارتها والعمل بها، وأرسى دعائم هذه السياسة مؤسس الأسرة العلوية محمد علي باشا بعلاقاته الطيبة مع الأجانب لاسيما الفرنسيين ممن عملوا معه من قناصل ومهندسين وإداريين واستشاريين.

وتذكر سوزان عابد أن والي مصر سعيد باشا أصدر لائحة تعرف باسم لائحة مارس 1857 نظم فيها شؤون الوافدين على مصر بغرض السياحة بداية من وصولهم إلى أرض الوطن حتى مغادرتهم للبلاد. كما أمر سعيد باشا بدفع نفقات علاج البعض من السائحين الذين تعذَّر عليهم تسديد ما تطالبهم به المستشفيات التي يعالجون فيها. أما عصر الخديوي إسماعيل فقد شهد تدفق كثير من الأجانب على مصر سواءً للعمل في مشروعات الخديوي المتنوعة من حفر لقناة السويس والعديد من الترع ومشروع تحويل القاهرة إلى باريس الشرق وغيرها من الأعمال العمرانية المتنوعة، بالإضافة إلى حدث مهم هو اشتراك مصر في معرض باريس عام 1867 الذي خصص فيه جناح خاص لعرض بعض الآثار المصرية المتميزة، وبالفعل أرسلت مجموعة من الآثار برفقة ماريت باشا المسؤول عن الآثار المصرية آنذاك، وهو فرنسي الجنسية وأعجبت بها الامبراطورة أوجيني مما جعلها سببًا قويًّا شجعها على زيارة مصر أثناء احتفالات افتتاح قناة السويس.