الفلسطينيون يلجأون للأفران الطينية في صنع الخبز والطعام

صورة من صور التكيّف مع الحصار

فرن طيني يفي بحاجة عائلة فلسطينية (أ.ف.ب)
TT

لا تلقي هديل العودة، 19 سنة، بالاً للدموع التي تجري على مآقيها جراء انبعاث الدخان من الفوهة الجانبية لفرن الطين التي تجلس قبالتها، بينما تواصل إدخال المزيد من أوراق شجر البرتقال الجافة في هذه الفوهة. وفي الوقت نفسه تقلب أمها نهلة، 49 سنة، أرغفة الخبز على قاعدة الفرن الوسطى التي تشتعل تحتها النيران. في الأوضاع الطبيعية، لا يوحي منظر البيت الكبير الذي تعيش فيه نهلة وابنتها هديل، الذي تحيط به حديقة ويقع في منطقة «بركة الوز»، غرب مخيم المغازي للاجئين بوسط قطاع غزة، بأن العائلة التي تقطنه والمكونة من أحد عشر شخصاً تعتمد على فرن الطين في اعداد الخبز. لكن هذا بالضبط ما غدا صورة من صور تكيف مليون ونصف المليون فلسطيني مع الحصار الخانق المفروض على القطاع، فتوقف معه وصول المواد الأساسية وضمنها الوقود. وبالتالي، ما عاد ممكناً استخدام الأفران العاملة على الغاز التي يعتمد عليها الفلسطينيون عادة في صنع خبزهم.

فبعد إغلاق إسرائيل المعابر التجارية التي عادة ما تدخل عبرها المواد الأساسية المطلوبة للحياة العادية في هذه البقعة من العالم، توقّفت محطة توليد الكهرباء الوحيدة في القطاع عن العمل لنفاد مخزونها من الوقود، كذلك خوت مخازن شركات استيراد الغاز. تستغرق «حفلة» صنع الخبز عند نهلة قرابة نصف الساعة، لكنها عند أنعام ابو سمحة، 41 سنة، تستغرق أكثر من ثلاث ساعات، لأن الفرن الواقع قرب طرف قطعة الأرض المقام عليها المنزل تستخدمه أيضاً جارات أنعام الست اللواتي يتحلقن حوله، ويتعاقبن على صنع خبزهن الواحدة تلو الأخرى، على أن تتكفل كل منهن بتوفير الحطب اللازم لإشعال الفرن كل يوم. وبخلاف نهلة، فإن أنعام وجارتها حريصات على استغلال الفرن الى أقصى حد ممكن، عبر انضاج طعام الغداء على الفوهة العلوية للفرن الذي تنطلق منه ألسنة اللهب. فكل منهم حين يأتي موعد استخدامها الفرن تضع طنجرة الأكل على الفوهة العلوية أثناء صنع الخبز، وبذا تكون قد أصابت عصفوري الخبز ووجبة الغداء بحجر ـ أو فرن ـ واحد. وبعد أن يبرد الطعام تقوم كل منهن بوضعه في الثلاجات حتى يحين موعد الغداء. ومن مظاهر حسن استغلال أفران الطين حقيقة أن العديد من العائلات التي تستخدمها تعتمد عادة على «المناقيش» (المعجنات المدهونة بالزيت والزعتر) في وجبة الفطور، وأحياناً يضاف البيض إلى الزيت والزعتر، وتحضّر بعد الانتهاء من الخبز. بالنسبة لسكان المناطق الريفية، طبعاً الوضع أقل سوءاً بالمقارنة مع وضع سكان المخيمات والمدن لأنه من السهل الحصول على الحطب اللازم لاستخدام أفران الطين. ومن سكان الأرياف عبد الرحمن النعايمة، تاجر الأغنام الذي يقطن في تخوم معسكر المغازي، والذي يلزم ابناءه بجمع الحطب اللازم للفرن الطيني كل يوم، وبالفعل يتكفل كل ولد من أولاده الثلاثة بجمع الحطب من كروم الزيتون وبساتين البرتقال في محيط المنطقة.

من ناحية أخرى، بينما يتجه كثيرون من الفلسطينيين إلى الأفران الطينية للتغلب على معضلة نفاد الغاز، فهناك آخرون يصنعون خبزهم بواسطة طناجر (حلل) تعمل على الكهرباء، يستخدمونها حين تتوفر الكهرباء. لكن طنجرة الطهو بالكهرباء تستخدم لإنضاج عدد قليل من أرغفة الخبز، كما أن ضعف التيار الكهربائي في كثير من المناطق يقلل من كفاءتها. وللعلم فإن 70% من الفلسطينيين في قطاع غزة يعانون من انقطاع التيار الكهربائي لفترة ثماني ساعات في اليوم. ومصدر التيار الكهربائي الذي يعتمد عليه الفلسطينيون في القطاع هو محطة التوليد الوحيدة المتوقفة حالياً، بينما تزود كل من مصر وإسرائيل القطاع بحوالي 50% من التيار الكهربائي، وهذه النسبة توزّع على جميع مناطقه، وإن كان في بعض هذه المناطق يقطع التيار لأكثر من يومين متتالين لتلف شبكات نقل الكهرباء. وبعض العائلات الفلسطينية التي لا تملك أفران طينية، تلجأ الى إعداد خبز «الرّقاق»، وهو خبز تعد عجينته من دون خميرة. ومن اجل إنضاجه يحتاج الأمر الى وجود قطعة رقيقة من الساج المعدني، عادة ما تباع في الاسواق، وثلاثة أحجار توضع في اماكن مختلفة، تنصب قطعة الساج عليها، ويشعل الحطب تحت قطعة الساج ويخبز الخبز فوقها. لكن هذا النوع من الخبز يحتاج الى كفاءة عالية، ومعظم نساء القطاع لا يجدن اعداده، لأنه يتطلب تقليب الرغيف قبل وضعه على قطعة الساج على كفيها بسرعة لكي يصبح كروي الشكل ورقيقا جداً يصل نصف قطره احياناً الى 25 سم.

إن المشكلة التي تدفع الفلسطينيين اليوم إلى البحث عن بدائل بدائية لصنع الخبز هو أن معظم المخابز أغلقت بفعل انعدام الغاز أو الدقيق. لكن واضحا أن الكثير من العائلات الفلسطينية لا يمكنها الاعتماد على الأفران الطينية لتعذّر إيجاد أماكن في البيوت لمثل هذه الأفران، وبخاصة في المخيمات والمدن المزدحمة، فضلاً عن أن الكثير من النسوة لا يصبرن على تحمّل الجلوس أمام الأفران الطينية.