«سكة المناصرة».. قلعة صناعة الأثاث المنسية في قلب القاهرة

متحف يدوي مدفون وسط الدروب والأزقة

مدخل سكة المناصرة (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

على الرغم من شهرتها الواسعة في صناعة الموبيليا اليدوية، وملتقى أمهر الأسطوات والصنايعية من شيوخ المهنة وشبابها، إلا أن الغالبية العظمى من المصريين يسمعون عنها فقط، ويجهلون الطريق إليها بالرغم من أنها تقع في قلب القاهرة! «سكة المناصرة».. سميت بهذا الاسم نسبة إلى الخليفة المنصور بالله والد المعز لدين الله الفاطمي ويرجع تاريخ إنشائها إلى سنة 971 ميلادية الموافق 360 هجرية.

وتشعر بدخولك إلى سكة المناصرة أنك في داخل متحف للفن اليدوي مدفون وسط دروب وأزقة قاهرة المعز القديمة، لكنك تستطيع الوصول إليها عبر العديد من المنافذ والدروب التي تخترق قلب القاهرة المعزية القديمة، وأيسرها طريق شارع بورسعيد بالقرب من جامع البنات في منتصف شارع محمد علي (القلعة حالياً)، أو عن طريق شارع عبد العزيز الشهير بتجارة أجهزة الجوال بمنطقة العتبة. أول ما يلفت انتباهك في السكة الطرقات المتعرجة ذات اليمين والشمال كأنها متاهة محكومة الإغلاق، حيث ترتفع بك الطرقات أحياناً وتهبط أحياناً أخرى، كما تتميز أرضياتها بالشكل الكلاسيكي التقليدي لحواري ودروب أزقة القاهرة القديمة المرصوفة بالبلاط الحجري القديم الأبيض المقوس إلى أعلى لمنع التزلج وتصريف مياه الأمطار. وعلى الرغم من أن كلمة سكة هي الشق الأول لاسم هذا الحي العريق، إلا أن السير فيها مقصور على المشاة وحدهم نظراً لاكتظاظ المكان بالكامل بآلاف أطقم الموبيليا وآلاف العمال وعشرات الورش التي تفترش كل شبر من طرقات السكة.

يقول الأسطى سيد حلمي «كورسجى»: سكة المناصرة من أقدم وأعرق الأحياء الصناعية بالقاهرة الفاطمية ويرجع السبب في هذه الشهرة لانفرادها وحدها عن سائر الأحياء الأخرى بصناعة الموبيليا اليدوية رخيصة الثمن، كما أنها تعتبر المدرسة العليا التي تخرج فيها أمهر وأكبر الأسطوات والصنايعية من (الكورسجية والمنجدين والمدهباتية والأيمجية).

أما الأسطى عبد الراضي هلال «استرجي ومدهباتي» فيقول سكة المناصرة تعد مجمعاً متكاملاً لكافة فنون صناعة الموبيليا اليدوية ففيها «الكورسجي» وهو النجار الذي يقوم بتقطيع الأخشاب وتفصيلها حسب الموديلات المختلفة للأطقم والحجرات أو تبعاً لرغبة العميل الخاصة، وهناك «الإيمجي» الذي يقوم بوضع وتصميم «الإيما» للأطقم والتي بناء عليها يتحدد السعر النهائي للجهاز، فإذا كان الإيما عاملاً مشتركاً وقاسماً أعظم في عملية التجهيز كان السعر مرتفعاً نوعاً ما والعكس صحيح. هناك أيضاً «المدهباتي» وهو «الاسترجي» الذي يتسلم الأطقم والحجرات على شكل خشب أبيض ثم يقوم بدهانها، أما بالأوستر وهو الأرخص في جميع الأحوال أو الذهبي أو اللاكيه المغسول، وذلك تبعاً لرغبة الزبون أو رغبة التاجر إذا كانت تجهز لا لتباع مباشرة ولكن لتعرض في معرض أثاث.

ويطلق على سكة المناصرة لقب دمياط القاهرة أو «ميني دمياط»، نسبة الى مدينة دمياط الساحلية على البحر المتوسط، وهي المدينة الأشهر في صناعة الموبيليا في مصر والعالم العربي.

وحول أنماط الموبيليا الشهيرة في المناصرة يقول الأسطى عبد الراضي هلال: هناك العديد من أنواع وأشكال أطقم الموبيليا المختلفة والبعض منها انقرض مثل طقم اسمه (الجمهورية) الذي اشتهر لفترة، ثم قل الطلب عليه جدا لتغير الذوق العام للناس واتجاههم نحو الأسهل والمودرن أكثر، وهناك نوعان من أطقم الموبيليا كثر الطلب عليهما في الوقت الحاضر، وهما الطقم الأسيوطي وطقم الأرابيسك والثاني الأكثر شهرة.

ويشير المعلم حجاج تاجر موبيليا إلا أنه عندما تذكر كلمة موبيليا أو أثاث يقفز إلى الذهن اسم دمياط على الفور لأنها كانت وما زالت هي المنافس الأزلي لسكة المناصرة وللأسف أن المنافسة دائماً تحسب لصالح دمياط، لأن الأيدي العاملة في دمياط متوافرة مما يؤدى إلى انخفاض تكلفة المصنعية والإنتاج بالتبعية، وهو ما يجعل أغلب التجار ومحال الموبيليا يذهبون إلى دمياط لتدبير احتياجاتهم من الأطقم المختلفة، كما أن سكة المناصرة لم تعمل على تطوير الصنعة اليدوية حتى الآن بعكس دمياط التي اتجهت منذ زمن إلى تطوير وتحديث فنون صناعة الموبيليا والأثاث بما يواكب متطلبات العصر الحديث.

لكن الأسطى فاروق عارف يدافع عن الفن في سكة المناصرة قائلاً: على الرغم من أننا لا ننكر دور دمياط في صناعة الموبيليا الحديثة إلا أن أحداً أيضاً لا يستطيع أن ينكر فنون وعراقة التصنيع اليدوي الدقيق لموبيليا سكة المناصرة، ومن ينسى صناعة المشربيات ومتانتها وجمالها.

وعن أشهر العائلات بمنطقة سكة المناصرة يقول عبد الراضي هلال: تعتبر عائلات المناديلي، وحنفي اليهودي، وسعد الكوبس، من أكبر وأشهر ملوك الصناعة في سكة المناصرة حتى اليوم، إلا أن تاريخ سكة المناصرة لا يزال يذكر بالفضل أصحاب الخبرات من الأجانب وخاصة الإيطاليين والفرنسيين واليونانيين والذين تركوا بصمات واضحة على مصنوعات السكة من موبيليات مختلفة والذين تعلم منهم الآباء.

وحول منحنى الأسعار في سكة المناصرة يقول الأسطى إبراهيم علي (صدفجي): إن سعر طقم الموبيليا يتحدد بناء على عاملين اثنين هما نوع الخشب وكمية الأيما والصدف التي تدخل في تجهيزه. وبالنسبة لنوع الخشب فهو يختلف من نوع لآخر، فهناك خشب الزان وهو أشهر الأنواع على الإطلاق ويدخل بنسبة 99% في صناعة الموبيليا، كما أن هناك أخشاب الآرو والماهوجني، والورد، وتتدرج الأنواع إلى أن نصل إلى أقلها جودة وسعراً وهو خشب الموسكي أو الأبيض المعروف باسم خشب الشجر. أما العامل الثاني ـ بحسب إبراهيم ـ فهو الأيما وتعنى باللمسات الجمالية الأساسية والإضافية التي تضعها يد الفنان (الإيمجي)، والتي كلما زادت زاد سعر الطقم.

وحول مستقبل المهنة يقول إبراهيم: الزمن لم يعد نفس الزمن، والمهنة كمعظم المهن اليدوية في مصر تتدهور نتيجة وجود دخلاء على الصنعة، أو الذين يريدون الربح السريع بالغش، فالبعض يضع صدفا مغشوشا مصنوعا من بلاستيك رديء، كما هو الحال في كل شيء الآن. البلاستيك أصبح هو الحاكم في معظم الصناعات لذا فهو ينطفئ بعد فترة وجيزة ويتقوس بصورة تفسد الجمال الذي كان عليه لأنه ليس أصيلاً، أما فن التنجيد وهو الذي يأتي أخيراً في عملية صنع الموبيليا. ويشير إبراهيم إلى أنه يخرج بشكلين إما تنجيد عادى مستقيم ومستو، أو (كابوتينه) وهو الذي يتميز بتقسيمات وغرز للأسفل وللأعلى. ويحدد كل ذلك طبيعة الموبيليا نفسها. ويناشد إبراهيم «الصدفجي» المسؤولين بالحكومة، لدعم صناعة الموبيليا والحفاظ على فنها العريق بالمناصرة.