«منادي» السيارات.. مهنة العاطلين في مصر!

كل ما تحتاجه شارع تقف فيه وفوطة صفراء على كتفك

TT

«تعالى ورا يا بيه.. خليك جنب الرصيف.. سيب الفرامل».. كلمات بسيطة ربما لن تحتاج غيرها لتصبح «منادياً» للسيارات في العاصمة المصرية القاهرة، فقد أصبحت مهنة من لا مهنة له، أو بمعنى أدق مهنة العاطلين عن العمل.

في جميع أحياء القاهرة، على اختلاف مستوياتها، ستجد في أغلب الشوارع شخصاً يحمل في يده كمية من مفاتيح السيارات، ويضع فوطة صفراء على كتفه، أما مهنته فهي حجز الأماكن الخالية للسيارات، ليؤجرها حسب رغبته.

ومع تزايد عدد السيارات في شوارع القاهرة، تزايدت الحاجة لإيجاد ساحات انتظار للسيارات، فحتى البرلمان، الذي يقع مقره في منطقة قصر العيني المزدحمة بوسط المدينة، لم يسلم من هذه الآفة الجديدة التي تزايدت بشكل وصل إلى حد التخمة. هذا الواقع دفع البرلمان في دورته الجديدة إلى تخصيص ساحتي انتظار لسيارات النواب خارج مقره، نظرا لانشغال ساحة انتظار البرلمان بأعمال الإصلاح والتطوير الجارية حالياً، الأولى على بعد نحو 1000 متر على الأقل لأعضاء مجلس الشعب، والثانية عند مقر دار الأوبرا المصرية على بعد نحو ثلاثة كيلومترات لأعضاء مجلس الشورى، وعلى النائب أن يجد وسيلة تنقله من مكان انتظار سيارته إلى مقر البرلمان.

ولعل الأمر الغريب هو أن انتشار ساحات انتظار السيارات الرسمية ساعد على تزايد ظهور المنادين، نظراً لارتفاع ما يدفعه صاحب السيارة لركن سيارته في الساحة الرسمية، مقارنة بما يدفعه للمنادي. ففي بعض الساحات تصل تكلفة ركن السيارة في الساعة الواحدة الى أربعة جنيهات (الدولار يساوي 5.5 جنيه مصري).

«يا باشا إحنا بنساعد الناس بدل ما يضيّعوا وقتهم في ركن عربياتهم، وده حاجة مهمة»، بهذه الكلمات دافع محمد عبد الرحيم (35 سنة)، وهو منادي سيارات بجوار مسجد مصطفى محمود بضاحية المهندسين، غرب القاهرة، وأضاف أن أغلب أصحاب السيارات الذين يتعاملون معه يعملون في البنوك التجارية الموجودة في المنطقة المجاورة له.. و«وقتهم ثمين لن يضيعوه في البحث عن مكان لسياراتهم».

ويوضح عبد الرحيم أن أجرته عن السيارة الواحدة تبلغ ثلاثة جنيهات مصرية إذا كانت ستقف من أول اليوم إلى آخره، بينما ترتفع إلى خمسة جنيهات إذا جاءت السيارة بعد الثانية عشرة ظهرا نظراً لصعوبة إيجاد مكان خال في ذلك الوقت.

ويقول: «هذا السعر مناسب نظراً لارتفاع المعيشة والغلاء المنتشر، ويستطيع صاحب السيارة أن يرفض أسعاري ويلجأ لساحات الانتظار الرسمية... وفي ذلك الوقت لن يدفع أقل من عشرين جنيهاً».

عبد السلام إبراهيم (51 سنة) لا يتحرك من دون كرسيه المتحرك بسبب إعاقة في قدميه، لكنه رغم ظروفه الصحية، يعمل منادياً للسيارات بشارع صبري أبو علم في وسط القاهرة، وهو يسترعي الانتباه بطريقته المختلفة في ممارسة عمله، إذ يوجه سائقي السيارات من على مسافة نظرا لإعاقته، ويعمل معه طفلان تتراوح أعمارهما بين 10 سنوات و12 سنة لمسح السيارات وتنظيفها.

ويقول إبراهيم: «إعاقتي لم تمنعني من عملي، فأنا أستطيع أن أوجّه قائد السيارة وأنا في مكاني، ولكن المشكلة الرئيسية التي تواجهني هي عجزي عن حجز الأماكن الخالية في منطقتي كلها، نظرا لإعاقتي، لذا ألجأ إلى وضع أقفاص خشبية لحجز الأماكن الخالية».

أما سيد عبد العال (58 سنة) فمن فئة «آخر المنادين المحترمين» ـ كما أطلق على نفسه، وهو يختلف عن بقية المنادين الذين التقينا بهم، بأنه يرتدي زياً مميزاً، ويضع على صدره لافتة نحاسية تحمل اسمه وشعار محافظة القاهرة. إنه من المنادين القلائل الذين يحملون ترخيصاً من محافظة القاهرة للعمل بهذه المهنة.

ولذا فهو يقول: «المهنة أصبحت مأوى للعاطلين، فبعدما كنا نرتدي زياً موحداً ونحمل كلنا اللافتات النحاسية التعريفية، أصبحت تجد البلطجية ... ومن لا عمل لهم يزاحموننا في لقمة عيشنا».

ومع أن عبد العال يحمل ترخيصاً رسمياً من المحافظة، فإن هذا لم يمنع بعض منافسيه ممّن لا يحملون هذا الترخيص من التربّص به والاعتداء على منطقة عمله، وأخذ الأماكن منه بالقوة، الأمر الذي دفعه إلى تحرير محاضر بالشرطة.

وعن هذا الوضع يقول: «جاءت قوة من الشرطة بالفعل في يوم واحد ونظّمت عملية انتظار السيارات، وقبضت على كل من لا يحمل ترخيصاً، ولكن بمجرد ذهابها عاد الأمر لما كان عليه».

هذه التخمة المرورية دفعت خالد جلال، المحاسب في أحد البنوك الاستثمارية بوسط القاهرة، الذي يقطن في ضاحية حلوان، جنوب القاهرة، إلى ركن سيارته الخاصة.. فوق الرف. خالد يقول «الآن استخدم مترو الأنفاق بدلاً من سيارتي الخاصة، لأنني عانيت من استغلال منادي السيارات، وعندما قررت ألا اعتمد عليهم اضطررت لدفع مبلغ كبير مقابل الانتظار في الساحات الرسمية... خاصة أن ساعات عملي قد تمتد من الثامنة صباحا إلى السادسة مساء».

وأشار خالد إلى أن أحد أسباب قراره التلفيات الشديدة التي أحدثها المنادي الذي كان يتعامل معه في سيارته إثر اصطدامه بسيارة أخرى، مضيفا «اكتشفت أنه كان يأخذ السيارة في مشاويره الخاصة، وفي إحدى المرات اصطدم بسيارة أخرى، وقال لي معلهش فداك يا بيه».

أما نورهان صلاح، الموظفة في إحدى شركات الطيران بالمهندسين، فتقول «لا أعتقد أنني من غير المنادي كنت سأستطيع إيجاد مكان لسيارتي، فالأمر أصبح يحتاج لمعجزة». وتضيف «.. أدفع للمنادي شهرياً 60 جنيهاً، أي بمعدل جنيهين يومياً، ولا أعتقد أنه مبلغ كبير مقابل بلوغ عملي في الموعد المحدد، وإراحة تفكيري من التفتيش عن مكان لسيارتي».

منادي السيارات، هو أيضاً لصّ الفراغ الرخو، الذي لم تقتصر بطولته أو نفوذه على هذا الفراغ، فحسب، بل طرق أبواب السينما في العديد من الأفلام.. من أشهرها فيلم «مستر كاراتيه»، الذي قام ببطولته النجم الراحل أحمد زكي، وجسّد فيه شخصية منادي يتصدى لعصابة مخدرات تستخدم السيارات المتوقفة كمخزن لبضاعتها. وفيلم «الجراج» بطولة الفنان فاروق الفيشاوي ولعب فيه دور مناد أصم في «جراج» إحدى العمارات السكنية.