الموت رقصاً يجتاح مسارح بيروت

شايلا البرازيلية تقص حكايتها لجمهورها ثم تطرده من الصالة

شايلا تتحاور مع نفسها على الانترنت ورفيقها مغادر إلى غيبوبته (تصوير: جوزف أبي رعد)
TT

توالت عروض الرقص المعاصر في الأسبوعين الأخيرين على بيروت، حتى طغت على المسرحيات، واحتلت الخشبات الرئيسية بمزاجها الشبابي المائل إلى التجريد والتجريب والاحتجاج. لبنانيون وغربيون، في أعمال مشتركة أحياناً، أعطوا انطباعاً بأن الفن في المدينة بدأ ينزع إلى التطلع خارجاً، وكأنما ثمة ضجر متزايد من الحرب وقصصها وأخبارها، ورغبة في رؤية ما تحمله جعبة هؤلاء الآتين من أماكن قصية. آخر الواصلين إلى بيروت كانت البرازيلية شايلا ربيرو باسا التي وقفت على مسرح «دوار الشمس»، لثلاث ليال متواليات بدءاً من يوم الجمعة الماضي. وشايلا هذه راقصة في الأصل لكنها هنا على المسرح مع شريك برازيلي لها، ينصبان تجهيزاً مكوناً من شاشتين يعلوهما كومبيوترين محمولين يقف وراءهما الرجل/الشريك عاري الجذع، ويقوم بإطلاق ايقاعات تخلط بين موسيقى السامبا والروك. على وقع هذه الموسيقى الهجينة ترقص شايلا بطريقة ميكانيكية وهي تقف أمام شاشة عملاقة ثالثة على يسار الخشبة يعرض عليها فيلم إلكتروني تظهر فيه امرأة رياضية تقفز فوق حواجز كثيرة. المرأة الإلكترونية تشبه حد التطابق شايلاً التي ينعكس ظلها على الشاشة، فيختلط بالفيلم، ولا نعد نميز بين الحقيقي والمزيف على المسرح.

العرض من بدايته وإلى منتهاه، فيه خلط بين واقعية فجة وعالم افتراضي بحيث ندخل في غرائبية محيرة. ماذا تفعل شايلا على المسرح؟ لا بد أن يتساءل المتفرج، وهو يراها ترقص قليلاً بحرفية عالية، ثم تتوقف لتتمترس وراء الكومبيوتر تتبادل «الشات» مع شريكها. يقف واحدهما إلى جانب الآخر، ببرود شديد، ونرى حديثهما مكتوباً على الشاشتين الكبيرتين المنصوبتين أمامها. يسألها عن أحوالها، وهي تفعل مثله، ثم يخبرها انه في بيروت، وتقول له وأنا ايضاً. فيجيبها: آه، وهي أيضاً ترد بـ«آه» مثلها. وينتهي الأمر. البرود الإنساني القاتل على وجه الشخصين المتحاورين الكترونياً رغم دهشتهما ليس غريباً، لمتفرجين يعرفون هذا النوع البليد من العلاقات العصرية.

حين نسأل شايلا عن هذا العرض المفكك الذي يخلط الرقص بالتجهير بالحوار والكلام الفلسفي المتقطّع غير المترابط الذي يخرج من الشاشات، تجيب: «أنا راقصة في الأصل، لكنني أعمل في عالم الدعاية وأرى ان كل شيء في عالمنا بات مزيفاً ووهمياً». وتستطرد شايلا: «لم تعد التصنيفات مهمة، كل الفنون اختلطت ببعضها وسقطت الحدود بين الأشكال التعبيرية». لكن العمل ضبابي وغير مترابط، وكأنما عندك نية في أن تبقي متفرجك غير قادر على تحديد ما يرى؟ تبتسم شايلا وتقول: «هذا العمل يشبه هويتنا التي لم نعد نعرف لها شكلا او انتماء، هل نحن شرقيون ام غربيون؟ هل أنا برازيلية أم ايطالية ام كندية، حقيقة لا أدري، أعيش بين المدن ولا أعرف لأيها انتمي؟ هكذا هو العمل الذي نقدمه، متسائل مثلنا، وحائر على شاكلتنا! هذا العمل الميكانيكي الراقص، الذي تلعب فيه الشاشات الثلاث المنصوبة أمامنا دوراً يوازي ما يقوم به الممثلين الاثنين، يتقصّد ترك المتفرج حائراً، لا يعرف إن كانت الميكروفونات تعطلت كي تستبدلها شايلا، ام ان ما يراه جزءا من الخدعة الفنية؟ وهل أن الشاشة التي تطلع منها امرأة تقول كلاماً فلسفياً عن الإنسانية والحيوانية، يصيبها عطل حتى يتقطع الحكي وتتبلبل الصورة، ام ان الأمر مقصود، كي يلتبس الأمر على المتفرج؟ وهل ان الموت الذي يتكرر سواء في النعوش الموجودة في الصور او في استلقاء الممثلين جثتين على الأرض هو موت حقيقي أم غيبوبة مؤقتة؟ فما بين الآلات والبشر واللعبة المخاتلة التي تريدها شايلا، لا يشعر المتفرج انه يندمج في العمل بقدر ما يبقى متوتراً يريد ان يعرف هل ان هذا الذي يحضره، هو تركيب فاشل لعمل فني لم يكتمل، أم ان ذائقتنا ما تزال قاصرة عن فهم هذه الفنون ما بعد المعاصرة، وليدة التكنولوجيا وألد أعدائها في الوقت عينه، حين تجعل موت إنسانية الإنسان محور اهتمامها؟

هذا الموت الذي يحضر بقوة دون ان يكتمل، هو أيضاً ما شاهده المتفرج في «مسرح مونو» منذ أسبوع آتياً من سويسرا، من خلال عمل راقص صممه جيل جوبين وجال به عواصم العالم قبل ان يصل إلى بيروت. هنا أيضاً كان ثمة راقصون لا يرقصون تماماً، ولا يموتون بالكامل، كما انهم لا يحضرون بتفجر، ويتحركون بتقطّع يوحي بأن ثمة في تنقلاتهم ما يشي بالارتباك. وجاء الموت أكثر حضوراً في لحظة تلاشي العمل الراقص الذي قدم منذ أسبوع أيضاً في «مسرح دوار الشمس» مجسداً الحرب وضحاياها ومآسيها. هنا أيضاً حضرت الشاشات والحركات المقطوعة الأنفاس التي تجد صعوبة في الوصول إلى نهاياتها. في ما بدا عرض الشارع «عش وارقص» الذي جال في بيروت وطرابلس أقل عبوساً، لكنه شبيه بالأعمال الأخرى من حيث رغبته في جعل اليومي بسذاجته وعفويته وتكنولوجيته جزءاً من الفن. أعمال راقصة، هكذا يسمونها، لكنها ليست تماماً كذلك. فالرقص الذي يهبط على بيروت آتياً من الخارج، ليس أكثر فرحاً وتفاؤلاً من ذاك الطالع من رحمها. ثمة ما يجمع هؤلاء جميعاً. انه الموت، الموت من الحرب او من وطأة التكنولوجيا القاتلة، والإيقاع السريع الذي يجرد البشر من إنسانيتهم. أصرت الراقصة البرازيلية شايلا في عرضها البيروتي ان يخرج متفرجوها من القاعة دون ان تنهي عرضها. قالت انها ستبقى تتكلم ولن تتوقف أبداً طالما ان في القاعة شخصا واحدا. مع ذلك بقي الجمهور متسمراً، وهي ماضية في الكلام، ضجر البعض وغادر، وبقي آخرون يتحدونها. وكان لا بد للمسؤولين عن المسرح ان يخلو القاعة بناء على طلبها، دون ان يستجيب الحضور كله للطلب. لعل شايلا خسرت الرهان في بيروت. أرادت ان تقول بأن التواصل مفقود وان الكلام لا يقابله إصغاء بالضرورة، في ما الجمهور البيروتي ما يزال حريصاً على الإصغاء. الموت هنا غيره في بلاد شايلا، والمأساة ربما لها وجه آخر لم تلتقطه الفنانة البرازيلية. ومع ذلك مايزال الرقص في بيروت مستمراً.