تمثال دوليسبس.. بين صخب النضال ومغريات البنكنوت

أنزله أبناء بورسعيد احتجاجا على العدوان الثلاثي عام 1956

فدائيون مصريون يقتلعون تمثال صاحب فكرة شق «قناة السويس» المهندس الفرنسي فيرديناند دوليسبس، أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 («الشرق الأوسط»)
TT

رغم حلول الذكرى الـ139 لافتتاح قناة السويس في 17 نوفمبر مازال تمثال مهندس حفرها فيرديناند دوليسبس حائرا يبحث عن الاستقرار منذ إنزاله من فوق قاعدته الرخامية على مدخل القناة عام 1956 احتجاجا على اشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر، ما بين مغريات الواقع و«سلة الحوافز» التي عرضها الفرنسيون على أبناء بورسعيد مقابل إعادته لمكانه، وأصوات التاريخ التي ترى في الرجل وآثاره بقايا رائحة الاستعمار الخبيثة، يدور الجدل الآن في المدينة الحرة، بينما التمثال مستقر في محبسه بعيدا عن الصخب، يصادق الصدأ والتجاهل. يقول البدري فرغلي عضو البرلمان المصري الأسبق عن بورسعيد، وهو من أشد المعارضين لعودة تمثال دوليسبس إلى قاعدته الرخامية عند المدخل الشمالي لقناة السويس: «هذا التمثال رمز للاستعمار الذي أذاق سكان منطقة قناة السويس الويلات، وإعادته إلى مكانه يعد تحديا واضحا لمشاعر شعب بورسعيد خاصة بعد رفضه كل إغراءات فرنسا لإعادته مقابل تطوير المنطقة التي يقع فيها بأكملها».

على عكس فرغلي هناك من يرى في تكريم دوليسبس ضرورة، فبحسب سعيد كيلاني رئيس قطاع المكتبات والوثائق السابق بهيئة قناة السويس فإن إقامة متحف يضم مقتنيات دوليسبس باعتباره صاحب فكرة شق القناة، شيء ضروري لأن ما قام به انعكس إيجابيا على الإنسانية بأكملها وسكان مدن القناة بشكل خاص، ولكن كيلاني رغم ذلك رفض فكرة إعادة تمثاله مرة أخرى لأن إسقاطه كان بمثابة طريقة متحضرة من المصريين للاحتجاج على اشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي. وأضاف: «يجب الإبقاء على قاعدة التمثال لأنها تخليد لذكرى انتصار إرادة الشعب البورسعيدي الذي لقن جيوش العدوان الثلاثي درسا لا ينسى وهو ما يشعر الأجيال القادمة بالفخر والعزة».

وتقوم جمعية الصداقة والثقافة الفرنسية جمعية «أصدقاء فيريدناند دوليسبس» بزيارات شبه سنوية إلى منطقة قناة السويس وعرضت على السلطات المحلية ببورسعيد تجميل المنطقة مع عودة التمثال مرة أخرى إلى قاعدته مع تدشين بانوراما تحكي قصة كفاح الشعب المصري في حفر قناة السويس ونضاله ضد العدوان الثلاثي.

وبحسب مسؤول بغرفة المنشآت السياحية ببورسعيد فإن الفرنسيين وعدوا بإقامة احتفال عالمي في بورسعيد يمتد لشهر ويتكرر سنويا ويتم الترويج له عالميا في حال قبول عرض إعادة التمثال.

وطالبت غرفة المنشآت السياحية مسؤولي محافظة بورسعيد بقبول دعوة الجمعية للنهوض سياحيا بالمنطقة.

ويقبع الآن تمثال دوليسبس مهملا وسط كومة من الحديد الخردة بترسانة بورسعيد البحرية التابعة لقناة السويس منذ قيام فدائيين مصريين أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 بإسقاطه عن قاعدته باعتباره رمزا للاحتلال.

يقول أحد أبناء بورسعيد، السيد شاهين، 48 سنة،: «لا أعرف لماذا الإصرار على وضع تمثال لدوليسبس عند مدخل القناة فمن الأفضل إقامة تمثال لشخصية مصرية كان لها دور تاريخي أثر في منطقة القناة».

ويقول عادل العليدي ،55 عاما، تاجر من مدينة بورسعيد: «هذا التمثال يمثل جزءا من تاريخ قناة السويس خاصة أن قاعدته الرخامية لازالت موجودة عند مدخل القناة وتعتبرها مصر أثرا .. وأنا مع إعادته إلى قاعدته لان العلاقة بين مصر وفرنسا جيدة حاليا».

وحاولت وزارة الثقافة المصرية في عام 2004 إعادة التمثال إلى قاعدته الحجرية المقامة بارتفاع 9 أمتار عند المدخل الشمالي للقناة ببورسعيد إلا أن ذلك قوبل برفض شعبي مما تسبب في تأجيل تنفيذه.

وأشارت أماني إبراهيم (ربة منزل) إلى أن «تمثال دوليسبس رمز تاريخي وإعادته لا تعني تمجيدا للمهندس الفرنسي الذي شق قناة السويس وإنما ذكرى وطنية أيضا».

يقول عز الرجال شاهين ،55 عاما، مدير بإحدى شركات الملابس ببورسعيد: «عودة دوليسبس إلى قاعدته سيزيد من النشاط السياحي في بورسعيد وسيعزز وجودها على خارطة السياحة العالمية».

اللافت أن محافظة الإسماعيلية تضم مقتنيات عديدة لدوليسبس لكنها تعاني من الإهمال والتجاهل وتتكدس داخل غرفة باستراحة دوليسبس الموجودة بشارع محمد علي وترفض قناة السويس فتح هذه الاستراحة التي كان من المفترض تحويلها لمتحف. وأبرز مقتنيات دوليسبس الموجودة بالإسماعيلية عربة مصنوعة من الخشب والحديد تجرها الخيول كان يركبها لتفقد أعمال الحفر بقناة السويس، ومكتب معدني، وسرير محاط بستائر، إضافة إلى خرائط ومسودات حفر قناة السويس.

وأشار طارق حسنين المسؤول الإعلامي بهيئة قناة السويس إلى أن إدارة القناة أسندت إلى أساتذة في الهندسة المعمارية القيام بدراسات حول استراحة دوليسبس التي تضم مقتنياته لتحويلها إلى متحف ولم تنته الدراسات بعد. يذكر أن فيرديناند دوليسبس ارتبط بعلاقات وثيقه في فترة الصبا بالخديوي سعيد خاصة أن أباه كان قنصل فرنسا بمصر أيام محمد علي وبعد تولي سعيد استغل تلك الصداقة في الحصول على فرمان الامتياز في 30 تشرين الثاني ـ نوفمبر 1854، وصدرت شروط الاتفاق مع تأسيس شركة القناة في 5 كانون الثاني ـ يناير 1856. فيرديناند دوليسبس صاحب التمثال الحائر والمقتنيات التي تعاني الإهمال ولد في ضاحية فرساي القريبة من باريس بفرنسا في‏ 19 نوفمبر عام ‏1805‏ لأسرة عريقة ترجع جذورها لعدة قرون مضت وعمل أكثر أفرادها بالدبلوماسية واشتهرت بمواقفها المؤيدة لنابليون. وقضى أعوامه الأولى في إيطاليا حيث عمل والده ثم التحق بالتعليم في كلية هنري الرابع بباريس.

وفي عام ‏1803‏ أوفد نابليون مبعوثا شخصيا إلى مصر هو «ماتيو دوليسبس» والد فيرديناند وكان مقربا لشيوخ الأزهر، خاصة علماء الديوان الذي كان نابليون قد أسسه في القاهرة، وكان أن التقط في أثناء فترة الفراغ السياسي من ‏1801‏ إلى ‏1805‏ الطابع الخاص الذي يميز الضابط الألباني محمد علي فاقترب منه وما لبث أن تولى محمد علي حكم مصر بإرادة شعبية، واستدعى نابليون «ماتيو دوليسبس» وحل محله فرنسي آخر هو «دوروفيتي» وأصبح المستشار الفعلي السياسي والعسكري والإداري لمحمد علي.‏ وكان آخر ما طلبه دوليسبس الأب من «من محمد علي قبل رحيله هو الأخذ بيد ابنه الوليد «فيرديناند». في سن السابعة والعشرين اختير «فيرديناند دوليسبس» قنصلا مساعدا لفرنسا بالإسكندرية عام 1832.

وبدأت أعمال الحفر في نيسان/ أبريل 1859، واستمرت عشر سنوات شارك فيها نحو 1.5 مليون مصري وراح ضحية تلك الأعمال التي تمت بالسخرة نحو 120 الف فلاح وعامل مصري.

وتم افتتاح القناة أمام الملاحة الدولية في 17 نوفمبر 1869 في عهد الخديوي إسماعيل بعد أن قدرت تكاليف شقها بنحو 14.2 مليون جنيه مصري. وبلغ طول القناة 169 كيلومترا وأقصى حمولة للسفن المارة 5000 طن. وفي احتفال أسطوري حضره نحو 6000 شخصية عالمية على رأسهم الإمبراطورة أوجيني إمبراطورة فرنسا وفرانسوا جوزيف إمبراطور النمسا وملك المجر وولي عهد بروسيا والأمير هنري شقيق ملك هولندا وسفيرا إنجلترا وروسيا بالأستانة. لكن الخديوي اختلف مع الشركة حول شروط الامتياز في 1864 وانتهى الاختلاف بأن تدفع مصر للشركة 84 مليون فرنك فزادت أعباؤها المالية وديونها، ما دفع الخديوي إسماعيل لبيع أسهم مصر بمبلغ 4 ملايين جنيه لانجلترا.