جماليات المعمار البغدادي القديم في عينين فرنسيتين

سيسيليا بييري تصدر كتابا مصورا عن بيوت الأجداد في العاصمة العراقية

منزل في الكرادة الشرقية بني عام 1946 (تصوير: سيسيليا بييري 2005)
TT

ليست سيسيليا بييري مصوّرة ولا متخصّصة في العمارة، بل هي مؤرخة للأدب، وتحمل شهادة عليا في تخطيط المدن. بيد أن هذه الفرنسية قدمت للقراء كتاباً جميلاً ومهمّاً يسدي خدمة كبرى للعراقيين أولاً، ثم لقراء الفرنسية الذين سيطالعون في صورها جوانب لا تنقلها لهم وسائل الإعلام العالمية المشغولة بتغطية رماد التفجيرات ومشاهد الفوضى والدمار التي جعلت من بغداد ساحة للبشاعة المطلقة.

صدر هذا الكاتالوغ في سلسلة «روح العالم» تحت عنوان «بغداد الفن والتزيين» عن منشورات «لارشونج مينوتور» في باريس. وإذا كانت المؤلفة قد سافرت الى البلاد العربية منذ نعومة أظفارها ولها العديد من الأصدقاء العرب، فإن المصادفة هي التي قادتها الى بغداد في رحلة كانت أشبه بالمغامرة، مع صديقة لها، في يونيو (حزيران) 2003. ولأن البشر لا يسافرون الى العراق للسياحة في مثل هذه الأوقات الحرجة، فقد أثمرت تلك الزيارة عن مبادرة سيسيليا وصديقتها إلى تنظيم معرض لرسامين عراقيين في باريس، ضم 70 لوحة. وكان ذلك أول نشاط فني يتيح التعرف على نماذج مما أنجزه فنانون عاشوا تحت وطأة ربع قرن من الحروب والحصار.

وتقول سيسيليا إنها تصوّرت أن ترى بلداً تشتعل فيه المعارك والنيران، لكنها شاهدت عاصمة خرجت لتوّها من العمليات العسكرية، قبل الفوضى والانهيار. وكانت تلك الزيارة الأُولى فاتحة لثماني رحلات تالية تمكنت فيها المؤلفة من استكمال مادة هذا الكتاب. أما عن تنقلاتها في بغداد وغيرها من مدن العراق ولقاءاتها مع الأهالي، رغم الحالة الأمنية الخطيرة، فتقول إن ملامحها التي تشبه النساء العربيات ساعدتها في السير في الطرقات، من دون أن تلفت الانتباه. كما أن الناس كانوا يستقبلونها ويطمئنون إليها ويساعدونها في مهمتها، عندما يعرفون أنها باحثة ومؤرخة وليست صحافية تبحث عن سبق أو خبر.

وبعين الخبيرة المدرّبة على اقتناص خصائص المدن، لاحظت سيسيليا بييري، جماليات البيوت البغدادية القديمة ولفت نظرها اسلوب البناء بالطابوق أو الآجر، فقرّرت أن تبحث عن ذلك التراث المعماري وأن تصوّر وتوثّق للمباني المهدّدة بالهدم، لعله يكون نقطة انطلاق إلى إعادة بناء المدينة وفق شخصيتها المعمارية المميزة، وبالأخص تلك البيوت التي جرى تشييدها ما بين العشرينات والخمسينات من القرن الماضي.

وكتب مقدمة الكتاب الأديب العراقي المولد نعيم قطان، الذي وجد في صور سيسيليا، نسخاً ورقية من الذكريات التي عاشت في مخيلته منذ أن كان طفلاً. فهذا الروائي اليهودي الذي غادر مسقط رأسه في بغداد قبل نصف قرن، واستقر في كندا، ظل يحلم بالعودة الى مرابع طفولته ويفاعته، ويكتب القصص من وحيها ووحي الناس، الذين كانوا أهله وجيرانه. نقرأ في هذه المقدمة: «هل غادرتها فعلاً؟ إن حضور بغداد في كتاباتي طبيعي بفعل الذاكرة الحية. أراني أتجول، كما كنت أفعل كل يوم، على شاطئ النهر قاصداً شارع أبي نواس، ومتطلعاً في اتجاه ذاك الصوب، المكان القريب الذي حلمت به. ولم أكن أهتم، آنذاك، بتأمل شرفة أو باب أو نافذة. كنت أكتفي بتتبع مجرى التيار والدوارات المائية، الفاتولات، والمويجات الصغيرة. هل كنت مستعجلاً إلى حد العمى؟».