الكارلتون.. نهاية ذاكرة حافلة من تاريخ لبنان

ملتقى السياسيين ومسكن الصحافيين ومعقل المثقفين والثوريين

مبنى فندق الكارلتون في العاصمة بيروت (تصوير: جوزيف ابي رعد)
TT

يلفظ أوتيل الكارلتون العريق في بيروت أنفاسه الأخيرة، ليطوي ذاكرة تاريخ سياحي وسياسي حافل ارتبط بالعاصمة اللبنانية. فالأعمال الهندسية، التي تمهد لتشييد أبراج سكنية في منطقة الروشة الراقية المطلة على البحر لم ترحم هذا الفندق، فطمرت معلماً كان قبلة السياح من مختلف أنحاء العالم، ومعقل المثقفين والثوريين على امتداد عشرات السنوات.

معاصرو الحقبة الذهبية للكارلتون، التي امتدت من الستينات الى منتصف السبعينات يجمع على دوره الفريد. فقد صمّمه المعماري البولندي كارل شاير، لإرساء صورة مميزة ومغايرة لما طبعت خصائص الفنادق المنتشرة في ذلك الزمن. ومنذ انطلاقته في فبراير (شباط) 1960، عكس الكارلتون طابعاً خاصاً به، بعدما كان من أول الفنادق العصرية الراقية التي بنيت في لبنان في هذه الحقبة، والتي ساهمت في استقطاب السياح نظراً للصفات العالمية التي كان يتمتّع بها من النواحي كافة.

لا يختلف اثنان على ان جدران الكارلتون كانت تنبض بذكريات كبار الشخصيات السياسية والاجتماعيةإ الذين جعلوا منه شاهداً على تحرّكاتهم بحلوها ومرّها، وملاذا آمناً في خضم الأحداث التي رسمت ـ بقسوة أحياناً ـ صورة التاريخ اللبناني ومتقلباته، كما شهدت قاعاته أهم الاجتماعات واللقاءات، التي نتجت عنها خيارات سياسية حدّدت معالم لبنان الحديث. الصحافي الياس الديري يعرف الفندق بـ«النادي السياسي ومقرّ الشهابية السياسية»، في إشارة الى أن ادارته كانت «شهابية الهوى»، وأن أصحابه من آل مدوّر كانوا يميلون سياسياً الى نهج الرئيس الراحل فؤاد شهاب، الذي كانت تربطه بأحد أصحابه، نقولا مدوّر، علاقة صداقة وطيدة، وكان نقولا مدوّر يستقبل شهاب في منزله في الجبل لتمضية عطلة الصيف. ويضيف الديري: «كذلك كان ملتقى الاجتماعات السياسية والمؤتمرات الصحافية والمحاضرات من مختلف الميادين والمجالات، الأمر الذي جعله يتميّز عن غيره من الفنادق ويصبح شبه مقتصر على طبقة المثقفين والميسورين. كما كان مقرّ اقامة للعدد من الصحافيين اللبنانيين وأشهرهم الصحافي الراحل ميشال أبو جودة، الذي اتخذ من الكارلتون سكناً شبه دائم لفترة طويلة». النظرة الشاملة الى تاريخ الكارلتون السياسي تكشف أهمية هذا المقرّ، الذي حدّدت في قاعاته أسماء مرشحي رئاسة الجمهورية اللبنانية لدورات عدّة. ومن أهم هذه المحطات التي طبعت المكان، كانت الاجتماعات التي عرفت آنذاك بـ«مجمع النهج الشهابي»، الذي اختار رئيس الجمهورية السابق شارل حلو عام 1964. وبعد ستة اعوام، أي في عام 1970 نشط التجمّع، الذي حمل اسم الفندق وعرف بـ«مجمع الكارلتون النيابي»، في عقد اجتماعاته الدورية لاختيار مرشح رئاسة الجمهورية، اذ طلب أعضاؤه من رئيس الجمهورية السابق فؤاد شهاب العودة لتولّي منصب الرئاسة قبل أن يصار إلى اختيارهم حاكم مصرف لبنان آنذاك الياس سركيس مرشحاً للرئاسة. كذلك فإن التحضيرات والاجتماعات السياسية لاختيار مرشّح رئاسة الجمهورية بين عام 1976 و1980 شهدت عليها ايضاً غرف الفندق، اذ كاد يُعلن منه العميد ريمون اده مرشحاً للرئاسة، كما يقول الديري، ليضيف: «وذلك قبل ان يتم استدعاء الرئيس الفلسطيني أبو عمار (ياسر عرفات) وقادة حركة فتح، الذين كانوا ميّالين لدعم إده للوصول الى سدّة الرئاسة، للضغط عليهم لتغيير خيارهم واختيار حاكم مصرف لبنان آنذاك الياس سركيس، وكان لهم ما كان». ويقال إن سركيس أدار معركته الانتخابية من أحدى طبقات الفندق، الذي استُهدف بهجوم من عناصر مؤيدي الحركة الوطنية والتنظيمات الفلسطينية المناهضة لانتخابه. مع أن الديري يعتبر ان «الاعتراض لم يكن يتجاوز الاستعراض». وكما في السلم كذلك في الحرب، كان الكارلتون شاهداً على أبرز المحطات في التاريخ اللبناني. ففيه تحصّنت قيادات الحركة الوطنية، وأبرزها الزعيم الشيوعي الراحل جورج حاوي، خلال الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982، لتدار منه انطلاقة المقاومة في وجه الاحتلال الاسرائيلي.

ومن السياسة الداخلية الى السياسيين العرب والأجانب، كان الكارلتون محطة لا بدّ منها لأهم رجالات السياسة في العالم، الذين حضروا الى لبنان، من الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الى القادة العرب. وفي عام 1977، أثناء ما عرف بـ«حرب السنتين» جمع الفندق وزراء الخارجية العرب في سعي منهم لإنهاء الوضع المتأزم في لبنان. الا أن الأوضاع السياسية التي أحاطت بفندق الكارلتون وطبعت مسيرته طوال عشرات السنين، لم تخلع عنه ثوب الفرح والسياحة التي شيّد من اجلهما. لذا كان قبلة المناسبات السعيدة والاحتفالات الضخمة التي زيّنت قاعاته، حيث أقيمت أهم حفلات الزفاف وأضخمها لكبار الشخصيات. ومع ان الاحتفال بانتخاب ملكة جمال العالم قبل الحرب اللبنانية في الاعوام 1964 و1965 و1966 كان يقام في كازينو لبنان، فإن الكارلتون اختير ليكون مقر اقامة المرشحات لهذا اللقب، بعدما كان استقبل انتخاب ملكات جمال لبنان لاعوام عدة. وفي عنوان الفرح نفسه، لكن هذه المرة على الصعيد الفني، استقبل الكارلتون في مرحلة ازدهاره في نهاية الستينات وبداية السبعينات حفلات لكبار الفنانين اللبنانيين والعرب، وأقام فيه كبار الممثلين المصريين الذين كانوا يأتون الى لبنان لتصوير أفلامهم. لكن هذه الصورة الباهرة لم تبق كما هي، بل لوّثتها منذ عام 1980 الحرب اللبنانية التي لم تترك من الكارلتون الا الذكريات الجميلة، وكان آخر المآسي الجريمة التي أودت بحياة الوزير ورجل الأعمال اللبناني السابق هنري فرعون، الذي وجد في عام 1993 مقتولا في أحد غرفه. وهكذا بعد رحلة طويلة من العراقة والتاريخ الحافل، انتهت مسيرة الكارلتون الطويلة ليتحوّل بطبقاته العشر وموقعه المطلّ على أروع المناظر في بيروت والجبل، في عام 2011 ـ كما هو مقرّر ـ الى ثلاثة أبراج سكنية فخمة تعمل مؤسسة جميل ابراهيم العقارية اللبنانية، التي اشترت الكارلتون في أغسطس (آب) 2006 بـ70 مليون دولار أميركي لتشييدها على مساحة 10 آلاف متر مربّع.