صيادو السمك بنيل القاهرة .. حالة إنسانية على هامش التاريخ

يتشبثون بالحياة وسط مناجم الألم

الصياد رجب الدجوي وأسرته على قاربهم الذي أصبح مسكنهم («الشرق الاوسط»)
TT

كان آخر لمسات الغروب تستعد لإرسال دفقاتها على تلك البقعة الساحرة من نيل القاهرة أسفل كوبري عباس الذي اكتسب شهرة تاريخية من المواجهة الدامية بين الإنجليز والطلاب المتظاهرين ضدهم في منتصف ثلاثينات القرن الماضي ليتحد مع رتوش نيلية خلابة وعبق تاريخي تشعه مباني حي المنيل العريق وذكريات أبطال قضوا في سبيل الوطن. أجواء يمكن أن تدفع المرء للغرق في نوبة «نوستالجيا» شجية لا يستطيع الفكاك منها لساعات. وحده مشهد رجب الدجوي وهو ساجد على مركبه الصغير وسط النيل يؤدي صلاة العصر كان كفيلا بإلغاء كل ذكريات الماضي، والتعلق بتفاصيل «الكادر» الساحر لرجل تتهادى به المياه ويضطر إلى حمل قبلته في قلبه مع تغير اتجاهاته رغما عنه بفعل التيار.

في الطريق إلى حافة النهر لانتظار الدجوي، بدت ملامح مجتمع آخر لا يشعر به بالطبع العشاق السائرون على كورنيش المنيل، ولا سكان الأبراج الصامتة على بعد أمتار، خمس عائلات تتخذ من مراكب متهالكة سكنا ومناما ومصدر رزق شحيحا ومنجما للألم.

في الطريق إلى الدجوي رفض جيرانه الحديث إلينا، وكانت الإجابة واحدة «مبنتكلمش مع حد»، ومع تكرار الإلحاح، لم يجد أحدهم أمامه إلا القول: إحنا صايمين يا أستاذ تعالى افطر معانا، تفضل».

دقائق وجاء الرجل بعد أن انتهى من صلاته ثم رحب بالحديث. على الأشواك الرخوة المختلطة بالوحل جلس رجب الدجوي، 48 عاما، ليحكي: «أنا من قرية (مناوهلة) التابعة لمركز الباجور بالمنوفية (وسط دلتا مصر) وأعيش في نيل القاهرة منذ 30 عاما، كان والدي صيادا ولا أعرف مهنة أخرى، زمان كان الرزق وفيرا واليوم من الممكن أن أظل ثلاثة أيام بلا سمكة واحدة، البحر خلاص ما بقاش فيه سمك من يوم ما ضحكوا علينا بحكاية الاستاكوزا اللي كلت السمك».

يبدأ يوم الدجوي في السادسة صباحا، حيث يلملم شباكه التي نصبها في السابق وجني سمكاته، وفي بقية النهار يمارس غزل الشباك وإصلاحها ثم إعادة فردها قبل أن يخلد للنوم في العاشرة على أقصى تقدير. للدجوي سبعة أبناء تزوج منهم بنتان وبقي معه ثلاث بنات صغيرات وطفل لم يتجاوز السابعة، إضافة إلى ابنه الذي يؤدي الخدمة العسكرية في مرحلة التجنيد، التفوا جميعا حولنا وسط الأشواك الموحلة على ضفة النهر، وبدت هيئة حديثنا كهيئة أبناء قبيلة «السيوكس» الهندية التي جسدها فيلم «الرقص مع الذئاب» في منتصف التسعينات.

«بيصعب عليا العيال قوي، لا تلفزيون ولا لعب ولا مدارس، قاعدين في الميه على طول وما بيشوفوش حد إلا ولاد الصيادين، كفاية إن الواحد فيهم لو حب يغسل وشه بينزل النيل»، هكذا واصل حديثه في شجن مبديا شعوره بالذنب لعجزه عن تعليمهم لضيق ذات اليد، وحشرهم مع أمه في قارب واحد هو محور حياتهم بينما استقل هو وزوجته في القارب الآخر.

إذا كان الدجوي قد فشل في تعليم أولاده إلا أنه على عكس ما حدث في فيلم «المراكبي» الذي مثله باقتدار الفنان صلاح السعدني فطن لضرورة تسجيل أولاده في السجلات الرسمية، حتى لا تتسع رقعة آلامهم ولجأ إلى حيلة بسيطة مكنته من ذلك وهي تسجيلهم على عناوين أقاربه في المنوفية أو في القاهرة خاصة أنه هائم وراء الرزق بلا عنوان.

بدا الدجوي كئيبا للغاية وهو يتحدث عن طريقة حياته، «الحمد لله على كل حال، بس صعبان عليه العيال وهي بتنام في البرد، نفسي أشتغل أي حاجة توسع رزقي، وكفاية إن كل اللي حوالينا مسافرين لأهاليهم في العيد وبيفرحوا واحنا قاعدين في النيل».

عمل الدجوي لفترة «ريس» بحري على يخت في منتجع «مارينا» شمال غربي مصر نظير ألف جنيه شهريا، ولكنه لم يتمكن من الاستمرار في العمل لبعده عن أسرته وتركها في النيل، كما فشل في الالتحاق بعمل مماثل في القاهرة. اعتاد الدجوي على طقوس بعينها في الأعياد، فبحصيلة بسيطة من المال يأخذ أولاده ليشتري لهم ملابس جديدة من العتبة (بوسط القاهرة) ثم يذهب لصديقه عصام «المكوجي» بالجيزة ليسترد جلبابه المخصص للمناسبات، ويسافرون جميعا إلى «مناوهلة» حيث الأقارب والونس بلقائهم.

هذه المرة لن يتمكن الدجوي من الارتحال لحضن الأحباب، كما سيفتقد مناجاة مراقد ابنته وابنه وزوجته، من فقدهم في لحظة كاد يفقد معها عقله وإيمانه.

يتذكر الدجوي ما حدث لأسرته السابقة فيقول: «في السادسة صباح اليوم الأول من أغسطس (آب) عام 1981 كنت أجمع الشباك بالقرب من كوبري أبو العلا المواجه لحي الزمالك (لم يعد موجودا الآن)، وفجأة انقلب المركب لأن «الهلب»غرز في الطين، وابتلع النيل ابنتي وكان عمرها 4 سنوات، وابني الرضيع وزوجتي، كنت مثل المجنون أصرخ ولا يسمعني أحد، وفعل الصيادون كل شيء لإنقاذهم ولكن إرادة الله سبقتهم، وخرجت جثة الابنة بعد ساعة بينما تم استخراج الجثتين الباقيتين بعد ثلاثة أيام».

تحطمت حياة الدجوي بعدها تماما، وظل لسنتين أقرب للجنون، إلى أن أسعفه الله بالصبر وواصل الحياة وتزوج ابنة صياد آخر وأنجب «كوم لحم»، ولكنها حياة أقرب للموت، فيقول: «والله العظيم أنا نفسي أخرج من هنا حتى لو هبيع فجل وجرجير، بس ولادي ينامو في أمان بدل ما ألاقيهم جثث في الميه تاني». بينما كان الدجوي يسترسل في حكي آلامه جاءت منال (اسم مستعار) زوجة جاره تستطلع الأمر، ثم أبدت اعتذارها لنفور زوجها وأخيه من الكلام معنا مبررة ذلك بخوفهم مع الكلام مع غرباء منذ تحطم مراسيهم التي كانت تستضيف مراكبهم البسيطة التي تدر عليهم دخلا إضافيا من جولات السياح في رمضان الماضي، «فيه مدير كبير اشتكى أن أصوات المراكب تزعجه فحطموها».

منال تعيش نفس مأساة الدجوي، فضيق الرزق دفعها للعبور إلى الشاطئ وبيع الذرة المشوي وعيدان القصب، ومعها أمها، وفي إحدى المرات وقعت الأم ضحية تهور سائق تاكسي على الضفة الأخرى على كورنيش الجيزة فوقعت أسيرة الجبس 6 إشهر في المستشفى.

«احنا ميتين يا بيه، والناس مش عايزة ترحم» هكذا قاطعها الدجوي ثم حكي عن معاناته مع محطة فضائية، أجرت حوارا مع زوجته ووالدته، ثم اتصل أحد معديها ليؤكد تلقيهم تبرعا من إحدى فاعلات الخير عبارة عن شقة ومبلغ مالي لإنشاء كشك، إضافة إلى مبلغ شهري.

يقول الدجوي: «6 أشهر يماطلوا فينا، وبعدين قالو لي مالكوش حاجة عندنا، مفيش فلوس، كانوا بيعشمّونا ليه بس»، هكذا ختم حديثه بصوت متهدج، ولم أجد غير الفكاهة سبيلا للخروج من جو الحزن فبادرته «عايش إزاي وانت معاك شعب في المركب؟ ثم كانت إجابته الأروع: «أنا عندي أكبر أوضة (غرفة) نوم في مصر، من الإسكندرية لأسوان هي طول نهر النيل».