مسجد المؤيد.. درة العمارة المملوكية في مصر

دخله صاحبه أسيرا وخرج منه سلطانا

مسجد المؤيد من الداخل («الشرق الأوسط»)
TT

في قلب القاهرة القديمة حيث عبق التاريخ، وحكايات الماضي البعيد، ينتصب مسجد ومدرسة المؤيد في شارع المعز لدين الله، كأحد أبرز الآثار التي يعج بها الشارع القديم. ومنذ ترميمهما قبل عدة سنوات وهما يحظيان بإقبال الزائرين الأجانب ليقفوا على حجم إعجاز عمارته وبنيانه الذي يضارع بمساحته وعمارته كبرى المساجد التاريخية في العالم الإسلامي كله.

وعلى الرغم من ان المسجد أنشأه السلطان المملوكي المؤيد أحد سلاطين دولة المماليك الجراكسة، إلا أنه يجمع في الوقت نفسه طرزا معمارية تحاكي عمارات عصور إسلامية متعددة سابقة له ولاحقة عليه، حيث كان مهندسه سباقا في عمارته لعصور تالية، فضلا عن أنه أراد أن يحاكي عمارة الفاطميين السابقة له. وقد يندهش الزائر للجامع عندما يعلم أن موقعه كان سجنا عرف باسم «خزائن شمايل» يسجن به أرباب الجرائم، وأن صاحبه السلطان المؤيد كان مسجونا في هذا الموقع، في ظروف سياسية تعرض لها قبل توليه السلطنة، حيث سجنه فيه الملك الناصر فرج بن برقوق، بعد اتهامه بالتآمر عليه، وفي أثناء سجنه نذر المؤيد أن يهدم السجن بعد خروجه، ويقيم مكانه جامعا ومدرسة، إذا مَن الله عليه بنعمة الحرية.

يتكون المسجد والمدرسة من صحن أوسط تحيط به 4 ايونات أكبرها إيوان القبلة، ويتألف من ثلاثة أروقة، بينما تتألف الثلاثة ايونات الأخرى من رواقين فقط.

وللمسجد أربعة حدود، الحد الجنوبي الشرقي، يطل على شارع المعز لدين الله، وبه الواجهة الرئيسة والباب الرئيس، والحد الشمالي الشرقي يطل على حارة الأشرفية، التي كانت تؤدي إلى باب الفرج. والحد الشمالي الغربي به الحمام والميضأة ومساكن طلبة المدرسة، فيما يطل الحد الجنوبي الغربي على شارع «تحت الربع»، والزاوية الجنوبية للجامع متداخلة مع البرج الغربي لباب زويلة الشهير.

افتتح المسجد قبل 600 عام تقريبا، فقد تم تشييده في ربيع الآخر من عام 818 هجرية، بعدما شرع صاحبه في حفر أساسه يوم الخميس، الرابع من جمادى الأخرى من نفس العام، وأقيمت أول خطبة جمعة فيه بتاريخ 2 جمادى الأول، ولم يكن قد اكتمل فيه سوى إيوان القبلة.

ويوم افتتاح المسجد نزل السلطان المؤيد إلى صحنه، وأقام احتفالا كبيرا بهذه المناسبة، جمع فيه الأمراء وخلع عليهم الخلع الثمينة. وكان ذلك قبيل اكتمال الجزء الأخير للجامع، حيث توفي السلطان المؤيد قبل اكتمال أجزائه، ومنها القبة الغربية، وكذلك مساكن الصوفية، إلا أن كاتب السر الذي تولى الأشراف على أعمال العمارة بعد وفاة السلطان أكمل الأجزاء الباقية. يعد السلطان المؤيد شيخ المحمودي تاسع السلاطين المماليك الترك، الذين حكموا مصر من أول شعبان سنة 815 هجرية، وتوفي في يوم الجمعة 5 محرم سنة 824 هجرية، إثر إصابته بمرض شديد، بعد أن حكم البلاد فترة قصيرة بلغت ثماني سنوات وخمسه أشهر. وترك من الأبناء ثلاثة، هم أحمد الذي تولى السلطنة بعد أبيه، وبنتين، ودفن بالقبة الشرقية بمسجده. كما ترك سيرة ذاتية تعج بالكثير من المفارقات والآلام. فقد سبي من بلاده وهو صغير فاشتراه شخص يدعى الشيخ محمود الرومي، وأحضره إلى مصر مع مماليك آخرين. وفي مصر امتهن عدة مهن وتنقل بين أمراء كثيرين، وحين عرض على الملك الظاهر برقوق رفض في البداية شراءه، لكنه قبل ذلك بعد عرضه عليه مرة ثانية. واستطاع المؤيد أن يكسب ود الملك برقوق، وأنعم عليه حتى أصبح ساقيا خاصا له وصارت له مكانة وحظوة عنده.

أتهم المؤيد بالتآمر مع بعض الأمراء على السلطان الناصر فرج، الذي تولى السلطنة بعد الظاهر برقوق، وقد أمر بسجنه في خزانة شمايل، لكنه استطاع أن يهرب ومن معه من الأمراء إلى الشام، حيث انضموا إلى نائبه وانتصروا على الجيش الذي أرسله إليهم الناصر فرج، حتى تولى المؤيد نيابه طرابلس، ثم تولى بعد ذلك إمرة معظم ولايات الشام، فتولى دمشق وحلب وصور وغزه وحماه والكرك. بعد وفاة الملك الناصر فرج بن برقوق حضر المؤيد إلى مصر وخلع الخليفة العباس المستعين وسجنه بالقلعة وتولى السلطنة في أول شعبان سنة 815 هجرية، بعد أن اضطربت أحوال البلاد.

ويومها أيده الأمراء والقضاة وأهل الحكمة، وتلقب بالمؤيد وكني بأبي النصر ولبس خلعة الخلافة، وانتشرت الاحتفالات والأفراح ودقت الطبول وزينت القاهرة كلها، وكان عمره وقت توليه السلطنة 44 عاما. كانت للسلطان المؤيد مثل معظم من سبقوه من سلاطين المماليك محاسن وعيوب، فمن محاسنه انه كان يتمتع بشخصيه قوية وحازمة لا تنقصه الشجاعة، يحب العلم والعلماء ويشجعهم ويحضر مجالسهم ويقربهم إليه، وكان يحسن إلى الفقراء، ويهتم بالإصلاحات وإقامة العمائر، وكان كريما على من يستحق الكرم، شحيحا على من يستحق الشح. تعرض مسجد المؤيد طيلة تاريخه للكثير من التداعيات أثرت على بنيته المعمارية ، فقد تحصن به بعض الثائرين من طائفة يطلق عليها «الزرب» في ولاية عمر باشا حاكم مصر من قبل العثمانيين سنة 1076 هجرية، فاستفتى العلماء في أمرهم فأفتوه بمهاجمة الجامع، على أن يرمم ما قد يحدث من تلف، فزحف عليهم الحاكم بجنوده ومعهم إثنا عشر مدفعا وضربوهم بالمدافع والبنادق. وعقب زلزال عام 1992، الذي ضرب مصر تأثر المسجد كغيره من المواقع الأثرية لمخاطر الانهيار، ما نتج عنه تصدع في بعض جدرانه وأعمدته استدعت عملية ترميم شاملة له، استغرقت ثلاث سنوات ليستعيد المسجد عبقه التاريخي في حلة جديدة.

أعمال التطوير راعت القضاء على مشكلة المياه الجوفية، التي ظلت تهدد المسجد منذ سنوات عديدة، إضافة إلى تقوية أساسات وأعمدة المسجد، وقد دشنت عملية ترميم المسجد أول مدرسة مصرية متخصصة في أعمال الترميم، بينما اقتصرت الاستعانة بالخبرة الأجنبية في إطار محدود، لترميم اللوحات الجدارية.

وفي أثناء التطوير تم اكتشاف امتداد سور القاهرة الجنوبي الحجري، الذي يرجع إلى عصر بدر الجمالي عام 485 هجرية، كما توصل المرممون إلى طريقة عملية لاستكمال الإيوان الغربي للمسجد.