التونسي توفيق الجبالي ينبش «مذكرات ديناصور» ويأتي بها إلى بيروت

متفرجون يدخلون آلة الزمن ويسافرون عقدين إلى الوراء

مشهد من مسرحية «مذكرات ديناصور» ويبدو فيه توفيق الجبالي (يمين) ورؤوف بن عمر (تصوير: جوزف أبي رعد)
TT

لم يكن كافياً أن يأتي المخرج التونسي المعروف توفيق الجبالي إلى بيروت بمسرحية قدمها منذ 21 عاماً وشكلت مفصلاً في الحياة المسرحية التونسية في الثمانينات، ليجتذب الجمهور اللبناني. فمسرحية «مذكرات ديناصور» المأخوذة عن نص برتولت بريخت «حوار المنفيين» والتي اقتبسها الجبالي نفسه، ليست عملاً شعبوياً أو سهلاً، وتقادم السنين جعلها بعيدة عن حساسية المتفرج العادي. عرض كهذا كان يستدعي تقديماً من الجبالي نفسه أو أحد الذين يمتلكون شرح خلفيات العمل وظروفه ومفاتيحه. ففي زمن «البهرجة» و«الماركتينغ» و«الأكشن»، يكاد المتفرج الباحث عن مسرحية تخاطب ذهنه يكون عملة نادرة يصعب العثور عليها.

وقف الممثلان على المسرح من دون مقدمات، لم يقل احد للحاضرين انهم أمام استعادة لعمل كتب في الأصل في فترة صعود النازية، بينما كان بريخت منفياً عن بلاده عام 1940 باحثاً عن مأوى في أنحاء أوروبا، ولم يقل أحد للمتفرجين أيضاً ان ما سيشاهدونه كان قد تم إخراجه وتقديمه في افتتاح «التياترو» في تونس عام 1987، وانه أحدث، في حينها، نقلة وطبع الحياة المسرحية لسنوات عديدة بعد ذلك، لما كان فيه من تجديد ورؤيا. كما لم يشرح أحد للحضور ان «مذكرات ديناصور» التي قدمت في عدة عواصم عادت ونبشت العام الماضي وأعيد إحياؤها في تونس للاحتفال بمرور 20 سنة على تأسيس «التياترو»، لما تعنيه هذه المسرحية للتوانسة ولرواد المسرح هناك بشكل خاص. كل هذه التراكمات التي تحفّز الذائقة والفضول بقيت خفية على الذين قادهم اسم الجبالي المعروف ليكتشفوا عملاً جديداً له لم يسبق لهم ان شاهدوه من قبل. التمثيل البديع للمؤديين توفيق الجبالي ورؤوف بن عمر، كما النص العبثي المحمل بالدلالات العميقة والإيحاءات التي استطاع المخرج الراحل رشاد المناعي أن يضفيها لم تكن كافية لإقناع الحاضرين بشحذ صبرهم لمتابعة مشهديات لا تتغير إلا لتكرر نفسها.

يمكننا تصور ان عملاً كهذا كان طليعياً بالتأكيد قبل عقدين. أما جمهور اليوم فقد كان بحاجة ماسة لمن يأخذ بيده بدل ان يتركه تائها في حوارات متقطعة وغير متماسكة في ظاهرها، لكنها في الحقيقة في بنيتها هذه تشكل جزءاً من فنية العمل وتمايزه. على «مسرح مونو» في بيروت ولمدة ثلاث ليال متواليات كان آخرها مساء الأحد، عشية العيد، صدحت الموسيقى السمفونية وبرقت الشاشة الخلفية للمسرح بأسماء المشاركين في «مذكرات ديناصور» كأننا نتهيأ لمشاهدة فيلم قديم خارج من ستينات القرن الماضي بالأبيض والأسود. ثم أضاءت تلك الشاشة بأبيض كأنما «خرمشته» أوراق الخريف وظهر الرجلان المنفيان، البدين «زيفل»، وهو فيزيائي وبرجوازي يلبس معطفاً واقياً من المطر والثاني النحيف «كال» بجاكيتة ولفحة الرقبة المتحدر من أصول بروليتارية، يتحاوران ويتماحكان. زيفل شديد العصبية والتوتر، وكال يكاد يكون بارداً كالثلج. حركة الرجلين محدودة في جزء مؤطر صغير في خلفية المسرح وكأنما الشخصان داخل لوحة مزنرة يتحركان ضمن إطارها الضيق جيئة وذهاباً، لا يملكان الخروج من حيزهما الضئيل حتى الاختناق. المكان الوحيد للحركة الحرة هو الكلام. هذا الكلام الذي يصعد ويهبط، يسخر بمرارة ينتقل من الفرح إلى الحزن ومن التوافق إلى الصدام: الحرية، العمل، الأبحاث، الحقوق، التعليم، البرجوازية، الضرائب، الأكل، الشرب. كل المواضيع صالحة لهذين المنفيين اللذين يفترض بحسب بريخت انهما في إحدى محطات القطارات حيث الناس كثر ووحدة المنفيين بين هؤلاء تبدو أقسى وأصعب. احتفظت «مذكرات ديناصور» من المحطة بمقعد خشبي طويل كالذي يمكن أن نشاهده في الحدائق العامة. بواسطته استطاع المخرج ان ينوّع حركة الممثلين في هذه المساحة الصغيرة، فهو مقعد يصلح للجلوس والوقوف عليه وتحويله إلى منصه، حين يحتاج الأمر ان تعلو وتيرة الكلام. وبشيء من الحنين عرضت اثناء المسرحية لقطات من العروض القديمة الأولى التي تعود إلى عشرين عماماً خلت، رغم ان صورتها لم تكن واضحة على الإطلاق والكلام بالكاد يفهم، إلا ان للحنين منطقه الخاص، الذي لا تجوز مناقشته أحياناً. وهنا أيضاً لم يدرك الكثيرون انهم أمام عودة إلى التاريخ وظنوا هذا الشريط الغبش جزءاً من اللعبة المسرحية.

لهذا نقول ان «مذكرات ديناصور» كان لها ان تستقبل بشكل مختلف، وأن تقدم للمتفرجين بعد وضعهم في أجواء المسار التاريخي الفني الذي تنتمي إليه. وإعادة عرض مسرحيات عربية قديمة، كان لها في زمنها صدى وتأثيراً، لهو مما يمكن ان يفيد كثيراً في فهم تطور الحركة المسرحية العربية. ومن المحزن جداً أن تمر «مذكرات ديناصور» من لبنان وتشاهد ويحكم عليها دون وضعها في مكانها وإطارها الصحيحين، ودون أن يقال لمن حمّل نفسه عناء الذهاب والفرجة: لهذه الأسباب مجتمعة أتينا إليكم بمسرحيتنا، ولهذا فنحن نستحق اهتمامكم.