حينما تصبح الطبيعة تعبيرا عما يختلج في الأعماق

قراءة فنية في أعمال الفنانة الأحسائية سلمى الشيخ

مبنى تراثي
TT

المتأمل في لوحات الفنانة الأحسائية سلمى الشيخ، يجدها ترجماناً حيّاً صادقاً لمكنوناتها النفسية، ونفحات روحها العاشقة للطبيعة والتراث. وفي الوقت الذي يختفي فيه التجريد الفني بكافة آياته وشتى صوره في فنّيات سلمى الشيخ تبرز الشفافية ويتجلى الوضوح في نسقها السيكولوجي، وفي بيولوجيتها التي فتقها خالقها فتتحسسها لأول وهلة في التعامل معها أو التأمل في شقشقتها الفنية عبر الورق والكارتون واللوح، أو حتى الجلود الطبيعية بكافة أنواعها. ويبقى اللون الترابي الطيني المفسِّر للآثار، والمرتبط بالتراث حاضرا وبقوة، في اللوحة الجلدية وبقية اللوحات، التي تكشف علاقتها بالتراث والآثار، حيث يفوح منها عبق الماضي وشذا الأصالة.

وتدرّج هرمونية الألوان في أعمال سلمى، يترجم تعابيرها الوجدانية ونفسيتها المتأرجحة بين الأمل والفرحة تارة والبؤس.ِ تمازج الألوان الأساسية بالثنائية، يبدو جلياً في دائرة اللون كما في لوحة الفواكه، حيث أجادته سلمى بطريقة خفيفة وسريعة، تنم عن نضج في التعامل مع الألوان.. فيبرز الانسجام والتوافق الفني بتناغم كافة عناصر العمل وخلوها من أي نشاز داخل جو عام ومنسق .

وفي لوحات أخرى تتصاعد العاطفة، ويتفاقم الشعور بالأمل واشراقة الروح، فتبدو الطبيعة مشرقة ذات حُسن وصفاء مفعمة بالسحر والبهاء.

يتضوّع عبق التراث الشعبي ويفوح شذاه بين أروقة وزوايا لوحة الباب، فبات الطين الأحمر الذي اشتهرت به أرض الأحساء، سيِّدَ الموقف وأساس اللوحة وأصل الإبداع فيها فصافح الجدار والأرض وبقايا الحجارة المتناثرة على أعتاب الباب وقُبالته، مما أعطى اللوحة جمالا آسرا ورونقا ينضح بأصالة القدم وبساطة العيش.

ويقف الباب الخشبي الأنيق شامخا مُشرئبّا نحو العُلا، حيث الماضي العريق، وحيث الكرم والسخاء، فقد جاء مشروعاً لمنْ يريد الولوج من خلاله، وعبر عتباته التي استوت مع رمل الأرض، وباتت مستوية الشكل سهلة العبور، ويثير اللون الأسود وبقايا الألوانِ القاتمة الضبابية داخل الدار، التساؤل عما يجول في خاطر الفنانة سلمى، في لحظات شطحت بها ريشتها، وغاصت في نفسها المتخمة بسواد الأسى وليل الشجى.

ويستفيق الأمل على ومضات لونية مضيئة سلطتها الفنانة على حافة الباب الرئيسية، كدلالة رمزية توحي بالفرج واليُسر وعلى الفرح والسرور، حيث خففت الألوان الطينية ومازجتها بالبياض وبالألوان الزاهية الشفِّافة، فتفننت في تفاصيل الرؤية البصرية للوحة تشكيلية جميلة ذات حس تراثي عميق. والمتتبع لإبداع الفنانة سلمى، يجد أنها تستأنس بالعزف على قيثارة المشاعر ونبض الأحاسيس عبر ترجمة الحالات الشعورية والعاطفية باللون والشكل وحركة الوصف الرشيقة، إذ تتحسس حالتها الشعورية بخفة وبانسيابية، كما في لوحة «صخب البحر» حيث يتمازج صخب البحر وضجيج أمواجه بشعور الغضب والغيظ المتصادم بالروح، فتبدو الصخرة المتماثلة قُرب الشاطئ، غارقة بهدير الأمواج تماما كالروح حينما تتلاطم عليها موجات الآلام وسيل المآسي..

ونظرة واحدة تلقيها على أعمال الفنانة سلمى الشيخ تستكشف خلالها السمة البارزة لها، حيث الوضوح والشفافية والسلام الروحي فتخاطب الروح والمشاعر لا الجسد والأشخاص، إذ بالقدر الذي حضرت الطبيعة والتراث في لوحات سلمى التشكيلية، وغدت الركيزة الأساسية لجميع أعمالها، غاب «بورتريه» الشخوص وملامح الوجوه والعيون، بعكس أغلب فنانات المنطقة الشرقية، فلا تكاد تراها البتة في لوحاتها، وكأنها سئمت الوجوه وملت الشخوص ولاذت بروحها وموهبتها للحضن الطبيعي الصادق، وجثت عند الطبيعة والتراث، وباتت تبث لواعجها إليها عبر ريشتها وألوانها وأفكارها، التي دأبت على تطويرها، فمن النقش على القماش والكرتون، إلى النحت على الجلود والصفائح المعدنية والزجاج، إذ تمكنت، وبجدارة، من أن تصنع كولاجا خاصاً بها.

وعلى الرغم من عدم وجود الشخوص لدى سلمى، إلا أن الإحساس بالانفعال البشري موجود في لوحاتها التي تضخ بالفرح والسرور تارة، والحزن والكآبة تارة أخرى، وأحيانا بالاضطرابات الشعورية من خلال تدرج الألوان وتصاعد الرسوم، ووجود الدلالات الرمزية والرؤية البصرية.

ومع إصرار الفنانة سلمى على بناء لوحاتها الفنية التشكيلية على التسجيلية الواقعية، بعيدا عن التجريد أو الرمز أو السوريالية، تبقى رشيقة الرسم رقيقة التشكيل خفيفة الريشة واللون. ومع انخراطها في ميدان التدريب الفني التقني في مكتب الإشراف التربوي، هل ستغامر سلمى في تغيير أسلوبها الفني والبنائي للوحاتها الفنية، وتتخلص من أسر الواقعية التسجيلية التصويرية بما يتماشى مع فناني المنطقة والحداثة؟