شارع المتنبي.. ذاكرة العراق

المالكي افتتحه.. ودعا أصحاب المكتبات والمثقفين إلى إعادة نشاطهم فيه

شارع المتنبي لدى إعادة افتتاحه أمس (أ.ب)
TT

افتتاح شارع المتنبي بالعاصمة العراقية بغداد أمس، تحديداً، أعادني إلى اليوم الذي زرته فيه بعد عدة أيام من سقوط بغداد، آملا في ايجاد أحد الأصدقاء. وكان شارع الرشيد ومنطقة الميدان، أشبه بمدينة مر فيها اعصار. يومها لم أجد أحداً في المتنبي، ولا حتى بقايا الكتب. والمنظر الغريب هو أن المحل الوحيد الذي كان مفتوحاً في المنطقة ويمارس عمله كالمعتاد في هذا الشارع، كان يبيع زجاج «اللالة»، وهو مصباح نفطي يعمل بفتيل قطني، ويوجد في البيت العراقي عامة لتوفير الإنارة خلال انقطاع التيار الكهربائي. هذا كان شأن شارع المتنبي.. شارع الثقافة والإبداع والشعر والأدب، وملتقى المثقفين بمختلف مشاربهم في تلك الأيام. ويشتهر الشارع الذي يعود تاريخه الى العصر العباسي بمكتباته العامرة بأنواع الكتب والمؤلفات في مختلف العلوم والآداب والفنون، ويضم بين جنباته عدداً كبيراً من المطابع التي اسهمت عبر عقود طويلة في نشر مئات العناوين للمؤلفين والكتاب والأدباء العراقيين.

هادي جلو مرعي، أحد المثقفين العراقيين، بادرني خلال حفل الافتتاح، بعد سؤاله عن سبب قيام رئيس الوزراء نوري المالكي بافتتاح هذا الشارع من دون شوارع بغداد الأخرى، التي سبق افتتاحها، قائلا «افتتاح هذا الشارع على يد المالكي، لا يعدّ مكسباً للشارع، بل هو مكسب للمالكي الذي عليه أن يفتخر بأنه، وخلال عهده، أعيد افتتاح هذا الشارع».

واضاف جلو أنه «خلال تسعينات القرن الماضي، كان الطلبة والمثقفون والشعراء، يلجأون إلى هذا الشارع، هرباً من الكبت السياسي، الذي كانوا يعانون منه، ويعبّرون عن ضيقهم من واقعهم المرير والعوز والحاجة للمال، فتجد أغلبهم، وأنا أعرف بعضهم، يعملون في معمل بطاريات او مطعم، ولا يشعر بتميّزه، إلا بعد أن يزور الشارع ويجلس مع أقرانه. وميزة الشارع أنه يجمع كل هذه الطبقات، كما كان منطلقاً إلى العالم.. فقسم من هؤلاء باع ما يملكه من كتب ليخرج أو يهرب من العراق»، واستذكر الأدباء الصعاليك مثل عبد اللطيف الراشد، الذي مات معوزاً وعبد الكزار حنتوش وغيرهم كثر. إعمار شارع المتنبي ـ الذي تعرض في مارس (آذار) 2007 ـ لعملية تفجير إرهابية، أدت الى استشهاد العشرات من رواده، وتضرّر اجزاء كبيرة من مكتباته ومقاهيه التاريخية ـ يمثل ضرورة للنخبويين والمثقفين في العراق، لأنه يمثل لهم ذكريات جميلة، وهو أيضاً ضرورة لباعة الكتب، لأن معيشتهم تعتمد عليه. وثمة رموز تذكرهم به مثل مطعم «كبة السراي» وشاي البغدادي وأركيلة الشابندر وغيرها الكثير. ثم ان أغلب الأبنية بقيت على حالها، رغم تعاقب الحكومات عليها من بريطانية وملكية وقومية. بل حتى في عهد الرئيس السابق المخلوع صدام حسين ظلت على حالها. وفي حين كان شارع المتنبي لبعض المثقفين الملاذ الأخير، فهم عندما يحتاجون للمال كنت تجدهم يلجأون إلى للشارع لبيع كتبهم، فإنه من الناحية السياسية لم ينقطع الشارع يوماً عن كونه مكاناً للمعارضة. إذ كانت كتب الحزب الشيوعي وحزب الدعوة تباع خلسة في زمن صدام، والشخص نفسه يبيعها، رغم تباعد بل تناقض الافكار، وقد يؤمن بمبدأ أحدها. هذا الشارع لم يمثل مبادئ في لحظات بل فرصة للعيش والتعايش وقد يكون العكس. كما أنه بعد عام 2003 ظل يمثل تصارع الأفكار، وأخذت كتب المتطرفين تباع فيه، بينما يؤكد مثقفون آخرون، انه بقي شارعاً مزدهراً ومشعاً في أشد الأزمنة قتامة، وعودته تشكل عودة للثقافة وعودة للحياة.. فبعد تفجيره توقفت الحياة فيه.

حكيم عبد الزهرة، مدير الاعلام في أمانة بغداد، قال في تصريح خص به «الشرق الاوسط» إن «عمليات إعادة إعمار شارع المتنبي، يمكن وصفها بالنموذجية»، وتابع «إنها تضمنت إنشاء بوابة عملاقة عند مدخل الشارع، وإقامة نصب جديد للشاعر أبي الطيب المتنبي زيّنت قاعدته ببعض من أبيات شعره المعروفة. ولقد ارتأت الأمانة إنشاء مرسى للزوارق على ضفة نهر دجلة، ليكون الشارع رافداً ومنفذاً لرحلات سياحية نهرية ترفيهية لرواده، إلى جانب كونه معبراً مائياً بين جانبي الكرخ والرصافة». ويوم أمس، افتتح رئيس الوزراء نوري المالكي، تمثالاً للشاعر ابي الطيب المتبني، وتجوّل في الشارع ومكتباته، وجلس في مقهى حسن عجمي، واطلع على معرض للصور الفوتوغرافية تجسد المراحل التاريخية للشارع، مروراً بالتفجير الإرهابي في مارس 2007، وانتهاء بإعادة بنائه واعماره بطراز حديث. وقال المالكي في الكلمة التي ألقاها في حفل الافتتاح «إن شارع المتنبي يمثل ذاكرة العراق، والثقافة والمثقفين، وهو ليس مكاناً لبيع الكتب فحسب، بل هو المغذّي للحركة الفكرية في العراق، ونحن نفتخر بما يمثله هذا المكان العزيز من معان تاريخية وحضارية، وندعو المثقفين واصحاب المكتبات للعودة الى الشارع، وإنعاش حركة الكتاب الذي يمثل الروح التي يتحرك بها المجتمع». وتساءل المالكي «لماذا استهدفوا شارع المتنبي والكتاب المستقل المحايد؟ ولماذا دمّروا جسر الصرافية، الذي يخدم جميع العراقيين؟ أ ليس هو الحقد والتخريب والرغبة في منع بغداد من أن تكون عاصمة للثقافة، ومحاولة لمحو ذاكرة العراق الثقافية والانسانية؟ ثم أضاف «كانت الأيام التي استهدف فيها الإرهابيون شارع المتنبي وجسر الصرافية وغيرها من معالم بغداد، هي بداية لخطة فرض القانون التي نجحت في بسط الأمن والاستقرار، واعادت الحياة الى بغداد»، مشيداً بـ«الإرادة العراقية الصلبة وبتظافر الجهود الوطنية المخلصة، لمواجهة الهجمة الإرهابية الشرسة، والتوجه نحو بناء واعمار العراق». وتابع «إذا كانت حركة البناء قد توقفت عشرات السنين، بسبب سياسات النظام البائد، الذي استهدف الحياة والثقافة، فقد عقدنا العزم اليوم، على اعادة اعمار العراق، بالاستفادة من الكفاءات والخبرات والمهندسين العراقيين».