في سوق هراس.. صور تحكي جوانب من تاريخ تونس

منها ما هو بالأبيض والأسود وآخر ملون

صور من مختلف الحقب التاريخية أمام الزبائن في نهج سوق هراس بتونس («الشرق الأوسط»)
TT

في منتصف نهج سوق هراس بالعاصمة التونسية تونس لوحة متوسطة وضعت فوقها صور الأمراء والبايات والسياسيين والفنانين. صور سعرها لا يتجاوز الدينار التونسي الواحد ولكن ما تقدمه هذه الصور لا يقدر بثمن، فهي تحكي جوانب تفصيلية من تاريخ تونس، أقدمها صور باللونين الأبيض والأسود ثم صور لاحقة جاءت بالألوان، بينها صور قديمة لبايات تونس الذين حكموا البلاد قرابة ثلاثة قرون... لكنها هذه المرة جاءت بالألوان.

هكذا هي الصور المعلقة بلا عناية بالقرب من الإدارات التونسية وأماكن التجارة والتسوق اليومي والممر الكبير للمترجلين القاصدين مناطق عديدة بوسط العاصمة، الأمر الذي استرعى انتباهنا فسعينا إلى معرفة ما يقبع وراء هذا الرجوع المفاجئ للصور التاريخية من ساسة تونس وحكامها. بائع الصور يجلس على مسافة أمتار منها، وكأنه ينفي عن نفسه تهمة الرجوع إلى الماضي أو العيش مع رموزه. غير أن اقترابي من الصور وتدقيق النظر فيها جعله يسألني عن حاجتي، ولعل بعض علامات الاستغراب ظهرت على وجهه عندما أعلمته بأنني سأطرح عليه بعض الأسئلة حول مصدر هذه الصور وبداية فكرة بيعها إلى الناس بعدما ظن الجميع أنها انزوت في كتب التاريخ إلى غير رجعة.

محمد الصالح الباجي، وهذا هو اسم صاحب الصور وبائعها، انه بدأ المتاجرة بالصور منذ سنة فقط وانطلق في رحلة البيع والتسويق بصور الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي السابق، «وقد وجدت صداها لدى التونسيين، وبخاصة الأجيال الجديدة منهم التي سمعت كثيراً عن بورقيبة ولا تكاد تعرف اليوم حتى صورته».

وتابع أن «المتاجرة بالصور جاءت فرصة أمام هؤلاء لاقتناء بعضها... كما أن الإقبال النسائي على صور بورقيبة كان قياسياً في البداية، وهو ما شجعني على البحث عن صور إضافية تجلب الانتباه». وهنا أسرّ لنا محمد الصالح باعتقاده أن النساء في تونس أحببن بورقيبة كثيراً «وحتى من لا تعرفه منهن لا تقدر على انتقاده... فهو الذي أهدى المرأة الحرية ونزع عنها غبن السنين»، كما يقول.

وبعد بورقيبة، كما يشرح محمد الصالح «جاء الدور على الفنانين المعروفين أمثال محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم وصليحة وعلي الرياحي ومحمد الجموسي، فهؤلاء لهم جمهورهم ولهم من يحبهم ويعيش على ذكراهم. وبعدهم انتقلت باهتماماتي نحو البايات الذين كان من بينهم الكثير من المصلحين وأصحاب النخوة الوطنية على غرار المنصف باي وخير الدين باشا... وكثيرون من سكان العاصمة يحبونهم ويطلقون على المنصف باي تسمية «سيدي المنصف» على سبيل المثال، وفي هذا ارتقاء بمرتبة البعض منهم إلى حدود الأولياء الصالحين». وسألته كيف طور في ما بعد مجالات اهتمامه ليصل إلى «نور ومهند»؟ فأجابي بدبلوماسية«هذا يدخل في باب الذكاء التجاري، فالشباب يبحث اليوم عن صور هؤلاء، يستحيل عملياً حرمانهم من هذه الصور، خاصة أن أعداد السائلين عنها كثيرة وهي تدر البعض من المال».

ثم قاطعته «لكنك أدخلت صور الرئيس التونسي الحالي ضمن المجموعة!».

هنا، تصوّرت انه لا يريد الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، غير أنه شرح لي الصعوبات الكبيرة التي لقيها عند تسويق صور بورقيبة فقط في البداية، وعندها شعرت أنه حريص على الحيطة والتقليل من المشاكل التي تعترضه في عمله اليومي. الواقع أن الصور المعروضة أمام المشترين كثيرة، وعملية إحضارها من كتبها ومراجعها تعد عسيرة للغاية، بل هي من صميم عمل الموثقين والمؤرخين، لذلك سألته من أين جاء بهذه الصور النادرة؟ فرد بأن المسألة برمتها بدأت عن طريق الصدفة، فقد لاحظ في بلدان أخرى إقبالا على الصور التاريخية فقرر أن يجرّب مع صور بورقيبة ونجحت العملية فطورها.

وشرح أنه في البداية توجه إلى باعة الكتب القديمة وحصل على خطب بورقيبة التي لم تعد تسوّق في الوقت الحاضر بعدما كانت تطبع وتوزع على الجمهور مجاناً... «وفي تلك المجلات والكتب توجد الصور القديمة باللونين الأبيض والأسود، ومن المجلات أستخرج تلك الصور وأنسخ منها أعداداً كثيرة وهي التي ستوفر عليّ المشقة لاحقاً». وأردف محمد الصالح «في البداية صرفت الكثير من جيبي الخاص، وبعد مرور فترة من الزمن أصبحت أجني الأرباح وهي أرباح كافية لإعالة العائلة وتدريس الأبناء». واستطرد قائلاً «لدي إحساس بأنني أحييت شيئاً كاد أن يموت، وأنا من بعث فيه الحياة... هذا ما أراه من خلال نظرات الدهشة المنطبعة على وجوه المارة عندما يقفون لتصفّح الصور المعروضة».

وهكذا، يوماً بعد يوم، يبهر محمد الصالح الباجي المارة بصوره القديمة والجديدة، ولكنه ـ وهنا العجب ـ جاء إلى مهنة بيع صور الرؤساء والفنانين والمشاهير من مهنة بيع الجوارب، وربما لن تكون هذه المعلومة محل عجب، فالحياة تغير الأشياء كما يغيّر الناس الجوارب... وفي هذا ربما بعض الحكمة.