.. في عرس الزيتون

يوم تقليدي لبناني في موسم القطاف: امتحان عسير لأهل المدن..ووليمة يخالطها التراب

استراحة من القطاف («الشرق الاوسط»)
TT

على إيقاع أغنية السيدة فيروز «كان غير شكل الزيتون»، سلكنا طريقنا الى قريتنا الشوفية، شوريت. كنّا على موعد مع القطاف، قطاف الزيتون وجمعه وتوضيبه. كانت الحماسة بادية على أوجه الجميع، وحناجرنا كانت تطلق أصواتا اعلى من صوت المذياع، وما زاد زخمها رؤية طبقات الاسفلت «الطازجة». بدا المشهد غريبا جدا بالنسبة الى منطقة الشوف الاوسط التي لم تعتد طرقها على كل هذا «البذخ» ودفعة واحدة. فأهلا وسهلا بموسم الانتخابات الذي بات ينتظره اللبنانيون، لاسيما من يقطنون المناطق المحرومة، ليتذوقوا شيئا من طعم «الانماء» و«التنمية» وسائر المصطلحات المنمّقة التي يطعّم بها السياسيون خطاباتهم. مشهد مضحك، اذ راح الجميع يتندرون ويسألون عن مصدر هذا «الكرم الحاتمي» ويرحّبون بسواد الاسفلت، رغم ان توزيعه استثنى الطرق الفرعية للقرى واقتصر على الرئيسية منها. قبل مواصلة الرحلة، لا بدّ من التوقف في منطقة عاليه للاستعانة بمن توافر من العمّال. ولهذه العملية اصولها اذ لا يمكن الاختيار عشوائيا والا صار العامل الكسول حجر عثرة في يوم يتطلّب جهودا كبيرة. لذلك يعمد اهالي القرى احيانا كثيرة الى حجز بعض العمّال الذين اثبتوا جدارتهم في تجارب سابقة.

لم تكد العجلات تتوقّف حتى تحلّق العشرات حولنا. بداية، راح كل منهم يدّعي انه الاقوى والافضل، لكنّ هذا النبض سرعان ما تلاشى حين ادرك المتحلّقون ان بساتين الزيتون وجهتنا. تراجعت الاعداد. وبعد لحظات خفتت بعض الاصوات الى ان وقع الاختيار على السوريين حسن وأحمد. نطقا بكلمة السرّ «نحن قادمان من بلاد الزيتون، من ادلب». وهكذا واصلنا الطريق من دون ان تفارقنا اغنيات فيروز وصباح. كانت خضرة الارض تطغى على خضرة أشجار الزيتون، رائحة زكية تفوح في الارجاء، انها رائحة التراب الذي بللته زخات المطر قبل ايام. حين ترجّلت وخطوت بضع خطوات، ادركت كم ان المدينة بصخبها وأضوائها وسرعتها وتلوّثها، اختطفتني بعيدا. بعيدا عن الهدوء والسكينة. بعيدا عن الارض التي استدعتنا اليوم لجمع «مونتنا» من الزيتون والزيت من دون ان نغفل الصابون البلدي. لم يقطع الهدوء سوى أصوات رفاق القطاف. كانت مناسبة للقاء بعض الاقارب من جديد. يسأل بعضهم البعض عن أجرة العمّال ليتأكدوا ان ايا منهم لم يدفع اكثر من الآخر. وإذا تبيّن ان أحدهم دفع مبلغا اكبر يسارع الى التباهي: «عمّالي اكثر شبابا وقوة من عمالك». يتذمّر البعض الآخر من ارتفاع اجور العمّال ما يفرض رفع ثمن صفيحة الزيت من 100 الى 130 دولارا. التداول في «بورصة الاجور» لا يمكن ان يطول لان البساتين كثيرة والوقت يدهم اصحابها فهطول المطر بات وشيكا، و«اذا سبقنا سيقضي على الموسم»، يقول احدهم قبل الانطلاق.

الوصول في وقت متقدّم من الصباح، يعرّض صاحبه للتأنيب في أفضل الاحوال، لان ذلك دليل الاستغراق في النوم والكسل. ولتخفيف وطأة الإحراج، لا بدّ من الانطلاق فورا الى العمل من دون التفوّه بكلمة، إثباتا للنشاط. ولكن المفاجأة ان العمل في الزيتون منهِك. والتنقّل من مرحلة الى اخرى ليس الا دليل ضعف. أمضيت يومي أبدّل نوع النشاط من لملمة الزيتون الى فرطه عبر استخدام تلك العصا الطويلة التي أكثرنا اسماءها لصعوبة حفظ التعبير المستخدم، فتارة هي «البشّوق» وتارة اخرى «الشّبوق» وطورا «المعقيلة» أو «المفراط» أو حتى «الفرّاط». تعدّدت المصطلحات وتشابكت وتفرّعت... وتعالت الصيحات والضحكات وفي كل الاحوال يتحوّل المخطئ محطّ سخرية الجميع، حتى العمّال الذين يكتفون عادة بالعمل، خرجوا عن صمتهم وانضموا الى مجموعة الساخرين الذين راحوا يعيّرون «ابناء بيروت والمدن».

في اية حال، استخدام هذه العصا لا يتمّ عشوائيا والا تساقطت الاوراق، وتكسّرت الاغصان، فتعلو أصوات المؤنّبين ليعود الإحراج من جديد وتحمرّ معه الوجنتان. والحلّ يكون إما باستبدال العصا بأخرى اصغر وأخفّ وزنا، وإمّا بالبحث عن طريقة أخرى للمساعدة. بدا «التمشيق» اي قطف الزيتون مباشرة من الشجرة، مغريا. لا يحتاج الى جلوس القرفصاء أو الى حمل عصا اطول من قامتي، كل ما في الامر نزع حبات الزيتون عن الاغصان ووضعها في الوعاء الصغير. مرّ النصف الاوّل من الساعة وبدأ النصف الثاني، مرّت ساعتان. ورغم تبادل الاحاديث مع «رفاق الزيتون»، كنت مستغرقة في التفكير في حياة الفلاحين في أجدادي، استرجع روايات جدّتي اللتين لم تغادرا قريتيهما الا بسبب الاحداث الاليمة. كانتا الى ايامهما الاخيرة، تحلمان بالعودة. أخبرتني جدّتي لأبي ان «موسم الزيتون» كان مناسبة للشباب حتى يتعارفوا، واذا تلاقت الاطباع، تمّ النصيب. وكان هذا الموسم أيضا مناسبة لمدّ أيدي العون. فلم يكن البحث عن عمّال امرا واردا لان الاهالي حاضرون ليساعد بعضهم البعض. كانت ترى في حبات الزيتون العلاج لغالبية الامراض، حتّى انها لم تكن تقبل بتناول الدواء الا مع بضع حبّات من الزيتون! من التمشيق كان عليّ الانتقال الى مرحلة اخرى، لان هذه المرحلة لا تلائم الا الاغصان المنخفضة وبالتالي فإنها محدودة ومؤلمة ذاك ان يديّ امتلأتا بالخدوش. أنجزنا العمل في هذه «الزيتونة» فحان الوقت لتوضيب ما تساقط على شراشف النايلون والخيش التي كنا قد فرشناها أسفل الشجرة. وقبل التوضيب يجب فصل حبات الزيتون عن الاوراق قدر الامكان، تسهيلا لعملية العصر والا يصبح الزيت عرضة لطعم المرارة. حان وقت الاستراحة. افترش الجميع الارض، وتحلّقوا حول «السفرة العامرة». البطاطا والبيض المسلوق مع الزيتون المكبوس، هي المأكولات التقليدية ليوم الزيتون. الجميع يأكلون بنهم وشراهة، لا حاجة الى التقيّد بإيتيكيت المائدة، لا ندر كيف يصبح التهام الطعام أطيب حين يختلط بحبات التراب. نضحك حين ينظر احدنا الى الآخر، لا وقت للتحدّث فالجميع منهكون. يجب التزوّد بسعرات حرارية لمواصلة العمل من دون تلكؤ، لذلك لا وقت لقيلولة أو لتأمل الطبيعة، فنحن في سباق مع المغيب. لا أخفي ان حسن اثار غيظي حين راح يشيد بزيتون مدينته إدلب «ذات التراب الابيض»، على حدّ قوله ويهين زيتوننا لانه متوسّط الحجم. كلماته أثارت حنقي لكنني اكتفيت بابتسامة قبل ان اقول له «وكأن الطعم والجودة يقاسان بالحجم». معذور هو، ذلك انه يجهل وجود تنافس بين اللبنانيين أنفسهم حين يأتي الحديث عن الزيتون. فأهالي الجبل يقلّلون من شأن زيتون بقية المناطق خصوصا الساحلية منها، فكيف اذا كان التنافس بينهم وبين قرى سورية! وما «فضح» نوعية زيته الا نصيحته التي وجّهها لوالدي، بترك الزيتون ثلاثة أو اربعة ايام قبل عصره ليأتي بكمية اكبر من الزيت. فما كان من والدي الا الاعتراض لان ذلك من شأنه «التأثير سلبا على طعم الزيت وجودته». وهكذا راح الجميع يتبادلون النصائح وكلّ يتباهى بزيتونه وزيته. من شجرة الى أخرى ومن «جلّ» الى آخر، امتلأت أكياس الخيش فيما فرغت أجسامنا من القوة والنشاط. حان الوقت لنقل الاكياس من البساتين الى السيارة. طريق شاقّة خصوصا انها مليئة بالمنحدرات الحادّة، لا تصل اليها العجلات ولا تجتازها دابّة كما هي الحال في بعض القرى. بدأ العمّال يتذمّرون ويملون شروطهم ليرضخوا في نهاية المطاف. بلغنا الطريق، بدا مشهد الشاحنات الصغيرة التي تقلّ عشرات أكياس الزيتون الى المعصرة جميلا، ورؤية علامات التعب على ملامح اهالي القرية اجمل. محطتان لا بدّ من التوقّف عندهما في طريق العودة: العين حيث نشرب ونغسل وجوهنا ونأخذ حاجتنا من المياه العذبة، والمزرعة حيث نتموّن بالبيض البلدي واللبن لتحضير اللبنة البلدية. على ايقاع المغيب كنت أستعيد شريط هذا اليوم في طريق العودة... صور طبعت في ذاكرتي وحلم العودة في مشوار مقبل، بدأ يراودني!