التاريخ لا يزال مستمرا

في عالم آي إم بي المعماري الذي صمم متحف الفن الإسلامي في قطر

وضع المصمم المعماري بي المتحف على جزيرة صناعية صغيرة يتم الوصول إليها عبر جسر صغير (رويترز)
TT

يكاد متحف الفن الإسلامي في قطر لا يفارق مخيلتي. قد لا يوجد شيء غير تقليدي في المبنى، لكن منحوتاته الخالصة تتميز بسمت هادئ مغاير لعصر بدا على الأغلب أنه عالق بين منحوتات ساحرة وأخرى متخمة بالحنين إلى الأوطان.

يرجع جزء من عامل الجذب في هذا المتحف إلى مهندسه آي إم بي، الذي وصل إلى قمة شهرته العالمية، منذ عقود مضت، بمشاريعه الفخمة، مثل المبنى الشرقي للمتحف الوطني للفن في واشنطن، وهرم اللوفر في باريس. ولأنه شخصية غامضة في أوساط تلك المهنة، فإن أفضل أعماله تحظى بعشاق، لكنها في الوقت نفسه تحظى بتجاهل كبير داخل الدوائر الفكرية للمهندسين المعماريين. والآن وبعد أن بلغ عامه الحادي والتسعين وشارف كذلك على الاقتراب من نهاية تاريخ حافل، يبدو أن بي يتمتع بذلك النوع من إيقاظ الروح، الذي تتمتع به غالبية المهندسين المعماريين الذين تغلب عليهم صفة الجدية، إذا ما حالفهم الحظ لكي يحيوا حياة طويلة بما فيه الكفاية.

كما يتميز المتحف أيضا بأنه يأتي ضمن الجهود الحثيثة لإعادة تشكيل هوية المنطقة الثقافية. فالكثير من المشاريع المدنية ذات الحجم الكبير كانت دائما ما يصرف عنها النظر في الدوائر الغربية، حيث ينظر إليها على أنها نوع من الخيالات السطحية. وما إن اكتمل البناء، حتى جاء متحف الفن الإسلامي شاهدا على أن الازدهار ليس سرابا، وأن بساطة المبنى، الذي يبدو بدائيا والمجموعات المبهرة من المقتنيات التي يضمها جعلته دليلاً على جدية الدولة في طموحاتها الثقافية.

ربما كان الأمر الأكثر رغبة، هو أن التصميم ينبع من رؤية عالمية متفائلة ـ تلك التي تنفصل عن الحداثة الكوزموبوليتانية وتعود إلى الأصولية التي جاءت لتميز العقود الأخيرة في الشرق الأوسط. والمُثل الذي يحتويها ـ بإمكانية التعايش المتناغم بين الماضي والحاضر ـ تعود إلى الوقت الذي كانت فيه الطموحات الأميركية عبر البحار لا تزال مختفية بين ثنايا أجندتها التقدمية.

وبالنسبة لبي الذي تشير شخصيته المتواضعة إلى التزام سام معين، يجده المهندسون المعماريون الجادون في مكان ما بين شدة الرؤية العاطفية المفرطة ونوع من الفجوة التاريخية.

ويقول بي في مقابلة معه «يميل المهندسون المعماريون المعاصرون إلى فرض الحداثة في تصميماتهم، مع اهتمام بسيط بالتاريخ لكنه غير عميق، ولقد أدركت أن الزمن تغير وأننا نتطور. لكنني لم أرد أن أغفل الماضي. والمعماري الذي يود أن يستمر لا بد أن تكون له جذور». ويجب ألا يمثل ذلك الاعتدال مفاجأة بالنسبة لأولئك الذين تابعوا عمل بي عن قرب. لقد استرجعت أول مرة أسمع فيها اسمه أثناء الاستقرار على تصميمه لإنشاء مكتبة كنيدي في بوسطن في أواسط السبعينيات. فالمكتبة التي تقع خلف ردهة زجاجية عالية لتطل على الماء لم تكن أول أعمال بي الأكثر عظمة، كما أنها لم تكن ابتكارية على نحو خاص لكن ارتباطها بكنيدي أضفى عليها سحرا خاصا.

ومنذ هذا الانتصار الشعبي بدا أن بي يرغب في انتهاج تلك الطريقة المتروية لابتكار تصميم لا يمكن للمعماريين الآخرين، إلا الحلم به مهما كانت دراستهم. وعندما طلب منه المشاركة في المسابقة التي أقيمت في عام 1983 لتصميم ملحق للوفر رفض بالقول إنه لن يقدم تصميمات أولية، ومن ثم طلب منه الرئيس فرانسوا ميتران أن يبدأ في العمل مباشرة، ثم طلب بي بعد ذلك من الرئيس ميتران عدة أشهر لدراسة التاريخ الفرنسي.

ويستعيد بي تلك الفترة فيقول، «أخبرته أنني أرغب في أن أتعلم شيئا عن ثقافته. كنت أعلم كل شيء عن اللوفر لكنني كنت أرغب في الاطلاع على ما هو أكثر من الفن المعماري، وأعتقد أنه فهمني على الفور». أمضى بي شهورا طويلة يسافر في أنحاء أوروبا وشمال أفريقيا قبل أن يشرع بجد في عمل تصميم نهائي للهرم الزجاجي الذي يقبع في باحة المتحف المركزية.

يتخيل بي التاريخ وكأنه عملية متصلة ناعمة ـ وهي نظرة احتواها المتحف الإسلامي الذي كانت سطوحه النظيفة المجردة صدى لكل من المدنية الحديثة والتاريخ الإسلامي العتيق. وقد أدرك أمير قطر وابنته الشيخة مياسة ذات الستة والعشرين عاما أن المتحف الإسلامي سيكون درة المشروع الثقافي الضخم، الذي يهدف إلى صياغة مجتمع مدني عالمي في مكان واحد كان حتى عهد قريب عبارة عن مجموعة من المخيمات البدوية وقرى الصيد. كان الهدف استدعاء الأذهان لتلك الفترة التي تمتد من مولد الإسلام وحتى فترة ازدهار الإمبراطورية العثمانية التي كان العالم الإسلامي إبانها مركز الاختراعات والتسامح الثقافي. كان هدف بي دمج قيم تلك الفترة المبكرة في ثقافة اليوم، لكي يتمكن من الفوز بجوهر الهندسة المعمارية الإسلامية.

وتستمد المنحوتات الصلبة للمتحف إلهامها من نافورة الوضوء في جامع أحمد بن طولون في القاهرة، إضافة إلى القلاع التي بنيت في تونس في القرنين الثامن والتاسع والبنية الحجرية قوية بما يكفي لحمل ذاتها في مشهد تلك الصحراء القاحلة.

ولكي يخلق إحساسا مشابها بالانعزالية عن العالم، وضع بي متحفه على جزيرة صناعية صغيرة يتم الوصول إليها عبر جسر صغير. وعند مشاهدة المتحف عن بعد، فإن أشكاله التي جاءت على شكل كتل تتباين بقوة مع الأبراج غير المنتهية وروافع البناء المتحركة، حيث توجد الدعائم على الجانبين. وتمتاز قمة المبنى الرئيسة ببرج قصير على شكل عين تفتح لتخفي القبة الداخلية.

ويتميز البناء بطبيعة خيالية مستوية من زوايا معينة مثل خشبة مسرح معدة. ومن زوايا أخرى، يبدو أنه يعوم على سطح الماء ـ وهو تأثير يذكرنا بسانتا ماريا ديلا ساليوت وكنيسة باركوي المهيبة التي تحرس مدخلا إلى جراند فيل في فينيسيا.

وعندما يقترب الشخص من المبنى، والوزن الكامل للبنية تبدأ في أن تصبح أكثر عنفا وتصبح الأشكال أكثر مهابة. يحيط بالجسر صفوف من أشجار النخيل معدة بصورة مائلة على المدخل، الذي يجعل تلك الأشكال الهندسية الوفيرة تبدو أكثر حدة، كما يعطي التضاد بين الضوء والظل تباينا أكبر.

تم تبدأ بعد ذلك بعض التفاصيل الصغيرة في الظهور: فهناك النافذتان الصغيرتان تتخذان شكل القوس فوق المدخل، الذي يبدو كرواق مقنطر يربط المتحف بالمركز التعليمي. وقد تبدو تلك اللمسات بسيطة لكنها تضفي إحساسا بالتدرج حتى يمكن فهم حجم المبنى وفقا لحجم الجسم الإنساني.

ويستمر ذلك التناغم بين عنصري الحداثة والإسلامية في الداخل حيث يقترب بي مباشرة من التراث الديني، فالقبة نصف الكروية، نموذج معقد من الأطباق الفولاذية تتوسطها فتحة دائرية صغيرة في قمتها، مما يعيد إلى الأذهان تلك النماذج التي استخدمت في كنائس العصر الباروكي والمساجد القديمة.

تشكل فخامة الردهة المدخل الوحيد إلى قمة الجمال الحقيقي: المتاحف التي تماثل روعة وجمال البهو. والقطع الأثرية موضوعة في صناديق زجاجية مستقرة على طاولات، الأمر الذي أكسبها رؤية ندر أن تجدها في المتاحف الكبرى. كما يوجد أيضا فراغ بين المعروضات يشعر بالمساحة من دون أن تحس بالعزلة عن بعضها البعض. تعد الآثار الموجودة داخل المتحف ـ مثلها مثل المتحف ذاته ـ انعكاسا للانطباع بأن ثقافة الحداثة والثقافة الإسلامية ليستا على طرفي نقيض، بل إنهما نسجا من نفس الخيط التاريخي. من بين المعروضات تأتي القطع العلمية المبهرة التي تتضمن الإسطرلاب، إضافة إلى المخطوطات اليدوية، قال فيليبي دي مونتيبيلو مدير متحف متروبوليتان للفن الذي يمتلك أشهر أعمال الفن الإسلامي، عندما تحدثت إليه عند افتتاح المتحف: إن الكثير من القطع التي دخلت في مزايدات عليها خلال العشر السنوات الماضية موجودة هنا في هذا المتحف. غير أن أفضل الأعمال هي تلك التي تؤكد على قيم العالمية التي هي لب هذا المتحف، إذ تمنحك الانطباع بأن تبادل الأفكار المفتوح والحر ـ والتسامح ـ هو أهم ما يبني حضارة عظيمة. ومصفوفة الأعمدة الكورنثية الإسبانية ذات الزخارف الإسلامية إنما هي ترجمة للنصوص الكلاسيكية التي شكلت ذلك العامل المفصلي للحضارة القديمة والنهضة الأوروبية. ويشرح النسيج الحريري لرجل وامرأة أمام إحدى الخيام قصة «ليلى والمجنون»، التي تماثل رواية روميو وجولييت.

كانت تلك هي اللحظات التي أرادت هندسة بي أن تجسدها. ويذكرنا متحفه بأن بناء الثقافة، التي لا تقل أهمية عن صياغة أجندة سياسية أو اجتماعية، يمكن أن تكون عملاً إحيائيا. ومثل كل الفن العظيم فإن هذه الهندسة تتطلب تقديم تلك القيم المتصارعة داخل مزيج واحد.

* خدمة «نيويورك تايمز»